بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 15 يناير 2015

«ثورة على السفينة باونتي» لفرانك لويد: الحق في الثورة على الآمر الظالم - ابراهيم العريس

في كل مرة يؤتى فيها على ذكر علاقة البحر بالسينما وأفلام البحر في شكل عام، لا يكون ثمة مفر من أن يكون فيلم «ثورة على السفينة باونتي» واحداً من الأفلام التي تذكر باستفاضة في المناسبة... لكن الأهم من هذا هو انه ما من مرة يؤتى فيها على ذكر الممثل الراحل قبل عقد من السنين ونيّف، مارلون براندو، إلا ويكون دوره في هذا الفيلم من أوائل الأدوار التي تذكر، بل إن كثراً يراهنون، خطأً، على أنه هو مخرج الفيلم لكثرة
ما ارتبط الفيلم به. وكذلك لأنه كان، على الأرجح، الفيلم الأكثر شعبية الذي مثل فيه براندو اوائل الستينات من القرن الماضي، ثم لأن دور براندو فيه كان دوراً بطولياً مركباً من النوع الذي يستهوي الجمهور العريض. ومن المرجح ان هذا الفيلم ساهم الى حد كبير في بناء سمعة مارلون براندو كفنان شعبي منذ ذلك الحين. ومع هذا قد يكون من الضروري ان نشير هنا الى ان هذا الفيلم الذي مثله براندو وصور في أعالي البحار، لم يكن ابداً من أفلامه الكبيرة فنياً. لا سيما اذا ما قارنا نسخة 1961 تلك (وهي نسخة ملونة) بالنسخة الأصلية الأولى (بالأسود والأبيض) التي كان فرانك لويد حققها عن الحادثة نفسها والموضوع نفسه في العام 1935، علماً أن نسخة اخرى ثالثة حققت عن ذلك الموضوع في عام 1984، وبدت سيئة للغاية. لكن هذا الأمر ليس موضوعنا هنا. ما يهمنا في هذا السياق هو العودة الى التذكير بالمرة الأولى التي نقلت فيها تلك الحادثة الى الشاشة. وواضح ان ذلك كان بتأثير مباشر من فيلم «الدارعة بوتمكين» للسوفياتي الكبير سيرغاي ايزنشتاين (1925). فالحال ان الجمهور العريض ومنذ وقت مبكر احب كثيراً الأفلام التي يكون البحر والبحارة محورها... ثم احب أكثر تلك الأفلام التي تحمل ثورة ما، او تمرداً عنيفاً، يختلط فيه عنف المتمردين بعنف البحر بعنف المشاعر التي تنتقل الى المتفرجين في عتمة الصالات، وبخاصة اذا كان الممثلون من النوع القادر حقاً، على نقل مشاعر مقنعة. ويقيناً ان «ثورة على السفينة باونتي» كما حققه فرانك لويد للمرة الأولى في ذلك الفيلم الذي لا ينسى، حمل كل تلك العناصر معاً... ولكن، بخاصة عنصر الأداء التمثيلي الرائع، حيث تجابه فيه تشارلز لوتون مع كلارك غايبل في الدورين الرئيسيين. فكان الفيلم كله في تلك المجابهة.

> في ذلك الحين كان كلارك غايبل في قمة نجوميته وكان شارباه الشهيران يشكلان جزءاً من تلك النجومية، ومع هذا رضي الرجل أن ينتزع شاربيه. اما تشارلز لوتون فكان واحداً من قمم التمثيل، واشتهر بأدائه الطبيعي الداخلي، قبل ولادة استديو الممثل. ومن هنا نراه، حين قبل ان يلعب دور القبطان «بلغ» في الفيلم، يعود الى المراجع التاريخية وإلى ارشيفات وزارة البحرية البريطانية كي يشكل شخصيته في شكل دقيق.
> ذلك ان الفيلم اتى مأخوذاً، اصلاً، من حادث حقيقي ذكرته سجلات البحرية الإنكليزية، واعتبر على الدوام مرجعاً ودرساً. والحادث حصل في عام 1787، حين تركت سفينة تابعة للبحرية الإنكليزية هي السفينة «باونتي» ميناء بورتسماوث في طريقها الى تاهيتي. وكانت مهمة تلك السفينة ان تحضر الى بريطانيا نباتات معينة جديدة ومفيدة لا تنبت إلا في المناطق الأستوائية. اما قائد السفينة فكان القبطان «بلغ» الغامض المشاعر والمشهور بقسوته وعدوانيته، وقيادته رجاله وعتاده بيد من حديد. والحال ان قسوة ذلك الرجل، عملياً ولفظياً، وعدم احترامه جهود الآخرين، وإصراره على التعامل مع الناس وكأنهم عبيد له، انتهت كلها الى جعل البحارة يتمردون عليه تمرداً ازداد عنفاً ساعة بعد ساعة. والأدهى من هذا ان مساعد القبطان كريستيان فلتشر (قام بالدور كلارك غايبل) وقف في صف المتمردين بدلاً من ان يقف في صف رئيسه. وهكذا سارت الأمور حتى اللحظة التي وُضع فيها القبطان «بلغ» في قارب صغير وتُرك في عرض المحيط. وإذ تمكنت السفينة «باونتي» من مواصلة طريقها الى تاهيتي، قُدّر للقبطان «بلغ»، ان يعود الى إنكلترا من دون ان يصاب بأذى. وهناك قرر ان يثأر لما حدث له. في البداية، جرت الأمور من طريق المحكمة العسكرية التي قضت اول الأمر بأنه على حق... ولكن الكثير من القرائن والشهادات، عاد ليتجمع دافعاً المحكمة الى تبديل نظرتها. غير ان فلتشر والبحارة المتمردين لم يعرفوا بأمر ذلك التبديل، وبأن الحكم النهائي للمحكمة جاء في مصلحتهم... إذ إنهم كانوا لجأوا معاً الى جزيرة بيتسكارن النائية حيث اختبأوا في منجى من الأحكام التي يمكن ان تصدر ضدهم. وهم لن يعودوا من تلك الجزيرة ابداً... لأنهم في ذلك المكان البعيد في الجزر البولينيزية لم يكن في مقدورهم ان يسمعوا آخر الأخبار.

> اذاً انطلاقاً من حادث تمرد بحري حقيقي، اعتبر في السجلات التاريخية الرسمية مثالاً في نزاهة القضاء كما مثالاً في وجوب التمرد على الآمر إن كان ظالماً على رغم كل التعليمات التي تقضي بغير ذلك، بنى فرانك لويد هذا الفيلم، الذي اضاف لبنة في صرح تلك السينما التي عرفت، باكراً، كيف تجمع بين حسّ المغامرة والدرس الأخلاقي والبعد الفكري من خلال إضفاء طابع طبقي واضح على الصراع، حتى وإن كان البعد السلوكي للقبطان هو السبب الأول في ما يحدث، لا التفاوت الطبقي... غير ان هذا العنصر الأخير ما كان له، إلا ان يطل برأسه، إذ ابتداء من اللحظة التي شوهد فيها فيلم «الدارعة بوتمكين» لايزنشتاين، ما عاد في إمكان هذا النوع من الأفلام ان يحصر خلفيات الثورة والتمرد في التصرفات السلوكية. إذ حتى حين تكون هذه هي الدافع الواضح، من البديهي ان الوضع الطبقي والسلطوي بالتالي للمتمرد عليه، يشكل العنصر الأساس في ما يحدث.

> مهما يكن من الأمر، فإن ما لا بد من الإشارة إليه هنا، هو ان هذا الجانب الفكري في الفيلم يظل عفوياً وعرضياً، وحتى وإن كانت اواسط الثلاثينات التي حقق فيها الفيلم، كانت بدأت تفاقم الوعي - وبالتالي: التساؤل - من حول مسائل مثل السلطة وحقوق المتسلط، وحق المضطهدين في الدفاع عن انفسهم، كما عن الأسس الاقتصادية للتفاوت الطبقي، بين المسيطر والمسيطَر عليهم. ويقينا ان هذه الرسائل كلها وصلت الى الجمهور الذي كان من شيمه، في ذلك الحين، التعاطف مع الضعيف والمضطهَد ضد القوي المضطهد. ومن هنا نُظر الى هذا الفيلم على انه كناية عن العالم الكبير والصراعات الكبيرة التي تدور فيه.
> ومع هذا لم يكن مخرج «ثورة على السفينة باونتي» فرانك لويد من طينة الفنانين اصحاب الرسائل. كان بالأحرى مبدعاً في افلام المغامرات. وكان متميزاً خاصة في مجال تحقيق الأفلام البحرية، هو الذي كان سبق له ان حقق منذ عام 1924 فيلم مغامرات بحري صامت حقق نجاحاً وصيتاً كبيرين في ذلك الحين هو «نسر البحار»، روى فصلاً من حياة المغامر جان لافيت. اما النجاح الهائل الذي حققه له «ثورة على السفينة باونتي» فمكنه من ان يحقق بعد اربع سنوات فيلماً بحرياً كبيراً آخر هو «سادة البحار». وحقق فرانك لويد (1887- 1960) في حياته ما يقارب المئة فيلم، معظمها من افلام المغامرات، لكن الكثير منها لم يخل من ابعاد سياسية، انما من دون ضجيج كبير. اما بالنسبة الى «ثورة على السفينة باونتي» فإنه اعتبر، دائماً، فيلم تمثيل اكثر منه فيلم اخراج او موضوع، ذلك ان المجابهة بين لاوتون وغايبل، اتخذت فيه طابعاً استثنائياً، حيث كان من الواضح ان كلاً من الفنانين الكبيرين كان يريد ان يجعل من هذا الفيلم وموضوعه عمله الخاص. العمل الذي يذكر به الى أبد الآبدين... ويقيناً ان الاثنين نجحا في هذا، ما وضع لاوتون في خانة النجوم، بينما جعل غايبل يعتبر ممثلاً كبيراً الى جانب كونه نجماً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق