بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 11 يناير 2015

◘ إقصاء فاجتثاث فتفرّد فدمار! عرفان نظام الدين

بكل هدوء وانسياب وصمت وواقعية انضمت ليتوانيا إلى مجموعة اليورو لتصبح الدولة التاسعة عشرة تعتمد العملة الأوروبية، في اتحاد يضم ٢٥ دولة كانت متباعدة فتقاربت وتضامنت في السراء والضراء وتشاركت في حل المشاكل ومواجهة الأزمات بلا تمييز ولا فوقية ولا تآمر، ولا إظهار للفارق بين دولة كبرى وأخرى صغرى، وبين شعب غني وآخر فقير، وبين اتباع طائفة قليلة العدد وأخرى تتباهى بعددها وعدتها.
عبرت هذه الصورة في مخيلتي وأنا أقارن بغصة بينها وبين صورة أوضاعنا المزرية وخلافاتنا الغرائزية وحروبنا العبثية والجنوح الأهوج نحو جنون انتحار التقسيم والتفتيت وإثارة الفتن وهدم كل ما بني عبر القرون من أجل عصبيات قاتلة أو تعصب إجرامي يلجأ إلى العنف والإرهاب والذبح والصلب والقتل والتكفير. فالعالم كله، دولاً وشعوباً، ومؤسسات وشركات، يتجه نحو الوحدة وتغليب المصالح العليا، فيما العرب يتّجهون إلى التشتت والتشرذم وتغليب المصالح الخاصة والضيقة على مصلحة الوطن والمجتمع والجماعة.
ويخطئ من يظن أن هذه الأزمة ابنة ساعتها أو برزت خلال السنوات القليلة المنصرمة، بل هي مجموعة تراكمات متتالية ووليدة أخطاء متعددة وخطايا مشينة وممارسات لا عقل فيها ولا قلب وضمير. فسنوات «الربيع العربي» وما ارتكب فيها من انحرافات شوّهت صورتها، ما هي إلا نتاج ما جرى خلال عقود من الزمن وليست السبب الوحيد، ويتحمل الجميع مسؤولية تبعاتها من القمة الى القاعدة، ومن الأنظمة والشعوب الى قادة الرأي والفكر والعلم والمجتمع والأفراد.
وبعيداً عن السرد الموضوعي للسلبيات والتراكمات، لا بد من وضع اليد على موضع الجراح الأولى، وهو الرغبة الجامحة في التفرد والاستئثار بالحكم والثروة ورفض الآخر وممارسة جرائم القمع والإقصاء والاجتثاث والتفرد والهيمنة، وما لحق ذلك من عنف وإرهاب، والمزايدة على «الآخر» ورفضه وقطع رأس صاحب أي رأي، معارضاً كان أم مجرد رافض للرضوخ والركوع.
ولم يتوقف الأمر عند الخلاف السياسي الذي يجب ألا يفسد للودّ قضية، بل تحول إلى أسلوب قمع لا يكتفي بإفساد الفرد، بل الإمعان في إفساد الأوطان والمجتمعات. ووصل الأمر أخيراً إلى التدخل في أدق تفاصيل الحياة اليومية والتضييق على كل أشكال الحريات. فمن أعطى الحق لإنسان بالقمع والزجر والمنع وتحديد ما هو مسموح وما هو ممنوع؟ وما هو حلال وما هو حرام؟ فعلى سبيل المثال، من يمنع المؤمن من محبة رسول المحبة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن هذا ما نشأنا عليه وتعلمنا منه كل شاردة وواردة من مكارم الأخلاق كقدوة وقائد ومثلنا الأعلى. ولا أنسى ما حييت كيف كنّا نجتمع في كنف كل أفراد الأسرة ويتلو علينا كبارها مآثر الرسول حبيب الله لنتربى على مبادئه ونتعلم منه الصدق والأمانة والمحبة والرحمة والإيمان الصادق. أحببنا أمه آمنة من إكرامه لذكراها ومحبته، وتعلقنا بمرضعته حليمة السعدية، وأخذنا دروس الإيمان من السيدة خديجة، أم المؤمنين التي صدقته ورعته ووقفت إلى جانبه في وجه الأعاصير، وأعجبنا بالصمود الجبار في وجه الكفر والظلم والإصرار على نشر دعوة الحق وتحمل مشاق الهجرة مع الصحابة، وعلى رأسهم سيدنا أبو بكر الصديق، بينما الرسول يواسيه بقوله: «لا تحزن إن الله معنا». ونحتاج إلى مجلدات لنشرح ما تعلمناه من هذه المناسبة الكريمة، وأكتفي بالإشارة إلى المثل الأعلى الذي ضربه لنا يوم فتح مكة المكرّمة، في التسامح والرحمة، وأعطى الأمان حتى لمن طغى وتجبر. ولا ننسى أيضاً النفحات الإنسانية النبيلة في التعامل مع الأطفال والنساء والكبير والصغير والفقير والغني. ثم في وصيته بالرحمة مع أهل الكتاب، والأقباط بينهم، بعد زواجه من السيدة ماريا القبطية، أم وحيده إبراهيم: «ستفتح عليكم بعدي مصر، فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لكم منهم ذمة ورحماً»، وعاطفته الجياشة النبيلة يوم فقد فلذة كبده: «إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون».
نعم، هذا هو النهج الحق الذي ترسخ في أعماقنا منذ نعومة أظفارنا لأن ديننا دين فرح وصبر ورحمة للعالمين، على عكس ما نراه الآن من إكراه وردع وتكفير لكل من يعبر عن مشاعره الإنسانية أو أن يزيّن شجرة ليسعد أطفاله أو يهدي وردة تعبيراً عن حب، والتمسك بالقشور وترك الجوهر عائماً. فهل كتب علينا ان نكون بكائين طوال الزمان ننبش الماضي ونخترع الأسباب لكي نندب حظنا وننعى أحوالنا ونشعل نار الفتن ونتقاتل على حوادث مضت، أغلبها سياسي أو مصلحي.
ولو استعرضنا أوضاع العرب خلال نصف قرن لوجدنا العجب العجاب واكتشفنا أسباب ما وصلنا إليه، فقد عشنا انهيارات ليس في شكل السلطة فحسب، بل في كل مفصل من مفاصل الحياة لتحمل آفات التقسيم والتفتيت ونسف كل مبررات التعايش ومقومات الوحدة التي أنعم الله بِها على أمتنا عبر العصور، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ولا بين مسيحي ومسلم إلا بالإيمان والالتزام بالعيش المشترك.
فكم من انقلابات ومؤامرات شهدتها دول عربية أفرغت المؤسسات من قوتها، وشرّدت الأدمغة وأصحاب الخبرات وهربت الثروات وسرحت الآلاف من الضباط والخبراء وأهدرت أو سرقت مئات البلايين، أو دفنت قبل ان تتحول إلى أدوات إنتاج وعمران.
وهناك أمثلة كثيرة على هذا الواقع، مثل مصر التي استنزفت طاقاتها في الانقلابات والمؤامرات والحروب الخاسرة والقمع، وصولاً الى التفرد والاستئثار بالحكم وإقصاء المعارضة على مدى عقود، ما أدى الى قيام الثورة وركوب «الإخوان المسلمين» موجتها من دون أن يتعظوا بمصير من سبقهم، فغرقوا في شهوة السلطة وحاولوا التفرد وإقصاء أي رأي آخر، فخسروا الرهان وسقطوا في ثورة الشعب والجيش، مع ان الخوف - كل الخوف - ان تتكرر التجربة وتوصد الأبواب في وجه التيارات الفاعلة.
وفي سورية، تكرر المشهد عبر السنين، وسط خلافات بدأت في عهد الاستقلال وتفاقمت نتيجة الانقلابات المتتالية والتصفيات الكيدية التي أفلست الوطن وقصمت ظهر المواطن وأفرغت البلاد عبر التفرد وتبادل الاستئثار ولعبة كراسي الطوائف بدلاً من الاتجاه نحو البناء. ولهذا حدث ما حدث أيضاً في لبنان، البلد الواعد، من خطايا سياسية فضاعت الطاسة بين استئثار واستئثار متبادل من تجارب الموارنة والسنّة والشيعة وتنافس على التفرد وإقصاء الآخرين والتنعم بمغانم ثمرات الوطن.
وفي ليبيا كشفت الحوادث الأخيرة هوة سحيقة تفصل بين أبناء الوطن الواحد بعد ٤٢ سنة من حكم معمر القذافي الديكتاتوري الظالم الذي كان يخفي وراءه شروخاً بين القبائل والمناطق تحولت حرباً طاحنة بعد سقوطه وتكشفت حقائق الستار الحديدي الذي كان يُزعم انه كان يمثل وحدة ليبيا.
وفي دول أخرى، مثل الجزائر، هناك تهميش لمكونات وطنية مهمة ساهمت في حرب التحرير وطرد المستعمر الفرنسي، فمناطق القبائل شبه محرومة من أقل مقومات الحياة، تعاني من الفقر والإهمال وتفرد جهات معينة أدى إلى اندلاع منازعات ومذابح كان آخرها الظلم اللاحق بمنطقة غرداية وسط تساؤلات وأسى عن مبررات ارتكاب مثل هذه الجرائم.
حتى الطوارق كانو أسياداً في منطقة المغرب العربي، ومع الزمن أحرجوا حتى أخرجوا، ومثلهم رجال النوبة أصحاب الحضارة المميزة في مصر والسودان الذين اجتثوا من ترابهم وموطنهم على ضفاف النيل ليرموا في مناطق تقتل إنسانيتهم.
أما السودان، فحدث عنه ولا حرج: إقصاء واجتثاث وتفرد تجلّى في النظام الحالي الذي حمل اسم «الإنقاذ» زوراً وبهتاناً ليتحول رمزاً للانفصال والتمييز العنصري والمضي في مؤامرة التقسيم وفصل الجنوب وحروب دارفور التي ارتكبت فيها جرائم لا يمكن أن يقبل بها دين ولا شرع ولا قانون، مع أنهم أبناء دين واحد لا عنوان له سوى الرحمة والسلام.
واليمن أيضاً عاش مآسي الإقصاء عبر الأنظمة المتتالية: قبيلة تحكم وتقصي الآخرين وطوائف تسيطر وتخضع الطوائف الأخرى، إلى أن وصلنا أخيراً إلى سيطرة الحوثيين وهيمنتهم على مقاليد البلاد بالقوة وإشعالهم نار حرب لن تخمد أبداً، من دون ان ننسى الشرخ القائم بين الشمال والجنوب الذي ولد حروباً ما زالت تلد أخرى وتهدد بالتقسيم.
ويبقى العراق رمزاً للإقصاء والظلم منذ أيام الانقلابات وحكم صدام حسين وتهميشه كل من لا يرضخ له، وتفرّد حزب «البعث» بعد تحويله واجهة للحكم. وبعد الغزو الأميركي، لم يتعلم أحد من الدروس والعبر ليأتي فريق نوري المالكي ويمارس أبشع أنواع التعصب والقمع وتعميق الهوة بين أبناء الشعب الواحد، وخصوصاً بين الشيعة والسنّة، إلى أن انتهى الأمر الى «غزوات داعش» وسيطرتها على أجزاء من البلاد.
وأختم مع معلومة سمعتها من سياسي كردي مسؤول تعطي صورة بينة عن حقيقة المؤامرة كما هي، قال فيها: إن معلومات وصلت إلى الزعيم الكردي مسعود بارزاني قبل ستة أشهر عن تحركات غريبة تنبئ بحدث ما تعده «داعش»، فقام بتحذير المالكي فوراً، لكن الأخير تجاهل الأمر. وقبل ثلاثة أيام من «الغزوة»، وصلت معلومات أكيدة عن قرب حدوثها، فلم يحرّك المالكي ساكناً وأوحى إلى قواته بالانسحاب وعدم المقاومة... حتى جرى ما جرى. بل الأسوأ من ذلك أنه كان أرسل قوات مذهبية كانت تستفز أهل السنّة وتشتمهم وتصادر أموالهم وتسبّ الصحابة لإثارة النعرات، ما أدى إلى سيطرة «داعش» بسهولة، ليس حباً بها بل ظناً من أهل الموصل أنهم وجدوا الخلاص من «ظلم ذوي القربى»... إلى أن اكتشفوا أخيراً زيف ادعاءات الطرفين بعدما بدأ «الداعشيون» يتدخلون في كل شاردة وواردة ويقومون بممارسات ظالمة تبيّن أنهم وجهان لعملة واحدة.
وبعد، هذا غيض من فيض، وللبحث صلة، لأنه لا بد من التعمق والتمعن والبحث في المسببات والأبعاد عن أسباب كل ما جرى بعدما كانت الأمة تنعم بوحدة فريدة دامت أكثر من ١٤ قرناً من دون تميييز ولا عنصرية. ولا بد أيضاً من الدعوة إلى المصارحة والمشاركة الكاملة لجميع أبناء الأمة في الحل والربط ونبذ العنف والتطرّف والتكفير وتحريم الإقصاء والتفرّد، وهذا يستدعي البحث عن عقد اجتماعي جديد يحقق المساواة والعدالة وسيادة القانون والتداول على السلطة والرضوخ لصندوق الاقتراع وعدم المس بأي حق من حقوق الإنسان. وكل ما عدا ذلك سيكون مصيره الدمار الشامل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق