بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 20 يناير 2015

◘ مستوطنة العقاب» لكافكا: نفحة أمل مفاجئة من سيّد اليأس - ابراهيم العريس

في روايته «كافكا عند الشاطئ» التي باتت شهيرة الآن، إذ ترجمت إلى الكثير من اللغات ومن بينها العربية، يتحدث الكاتب الياباني هاروكي موراكامي عن رواية «مستوطنة العقاب» لفرانز كافكا، على لسان الراوي في روايته إذ يقول أن الآلة في رواية كافكا هذه، إنما هي وسيلة هذا الكاتب لتفسير نمط الحياة الذي نعيشه نحو البشر، ليس عبر حديثه عن الوضع الذي نعيش، بل عبر حديثه عن تفاصيل هذه «الآلة». وبهذا
الكلام يُضاف موراكامي إلى عشرات، بل مئات الباحثين والكتّاب - كيلا نتحدث عن ألوف القراء - من الذين حاولوا دائماً إيجاد تفسير لرواية كافكا هذه. فالرواية على رغم الوضوح النسبي للمناخ العام الذي ترسمه، وعلى رغم ما يلوح في صفحاتها من ربط لموضوع الرواية ببقية المواضيع التي عالجها كافكا في بقية أعماله، تظل دائماً عصية على التفسير، ما دعا كثراً إلى الاكتفاء باعتبارها رواية سوريالية تنتمي إلى عالم الكوابيس الذي ينتشر في أعمال كافكا في شكل لافت. مع هذا، يمكن أي قارئ بسيط أن يدرك فور قراءته هذا العمل أن كافكا إنما يسجل فيه، بحذقه الشديد، لحظة شديدة الخصوصية من لحظات تاريخ النوع البشري، اللحظة التي يقرر فيها الإنسان أن يقطع في شكل واعٍ مع ماضيه الذي لا شريعة فيه ولا قانون، والمتخم بكل أنواع التسلط، كي يتمكن من بناء مستقبل أفضل. وليس أدل على هذا من تلك الابتسامات الصادقة التي نراها على وجوه الرجال الحاضرين في مشرب الشاي. فالذي نفهمه هنا، بسرعة، هو أن ما من واحد من الحاضرين ينتظر وقلبه عامر بالإيمان، عودة ما للحاكم القديم. أبداً «فالتاريخ يتحرك محملاً برؤى جديدة لذلك المستقبل»، ما يعني أن كافكا لا يمكن أن يبدو لنا هنا، ذلك الكاتب اليائس السوداوي الذي اعتدنا أن نراه في بقية أعماله وأكثر من هذا: إن بعض النقاد يقولون أن كافكا أفهمنا هنا، آخر الرواية، أن بين أيدينا نحن، بناء رؤية جديدة تتلاءم مع الرؤية التي تنتهي عليها الرواية.

> فهل علينا هنا أن نذكر أن «مستوطنة العقاب» كانت واحداً من الأعمال القليلة التي نشرت خلال حياة فرانز كافكا، بل العمل التخييلي الذي نشره كافكا قبل أي نص آخر له إذا استثنينا «المسخ» التي نشرت قبل ذلك بثلاث سنوات؟ لقد نشر كافكا «مستوطنة العقاب» في عام 1919، وعلينا أن نبحث في مذكراته ومراسلاته العائدة إلى ذلك الحين كي نفهم سر تلك الإيجابية التي يمكن تلمسها، والتي تبدو متناقضة تماماً مع سلبية «المسخ» وسوداويتها. غير أن هذه الإيجابية، يتعين على القارئ أن يبحث عنها بدقة، وذلك لأن مناخ الرواية كله سوداوي مرعب... والتفاصيل فيها لا تدفع إلى أي توقع مضيء.
> تدور أحداث «مستوطنة العقاب» في جزيرة استوائية لا يحدد كافكا لها اسماً، كما أنه لا يعطي شخصياته الرئيسية أي أسماء. ومن بين هذه الشخصيات شخصية المسافر، ذلك الغريب الذي كان يمر بالمكان صدفة، فيصبح بسبب ما شهده بأم عينه، شاهداً على الأحداث تُروى من وجهة نظره، ويكون بالتالي أشبه بلسان حال القارئ نفسه. وهذا المسافر يشهد عملية إعدام عند مفتتح الرواية. والغريب في هذه العملية هو أن الآلة التي تستخدم فيها هي عبارة عن جهاز شديد الغرابة والتعقيد، يعاقب المدان في شكل فريد من نوعه. وطبعاً لا يفهم المسافر هذا كله من تلقائه، بل إنه إذا استبد به الفضول إزاء ما يشاهد، يصغي إلى أحد الضباط يشرح له الأمر. ومنذ البداية يتبين لمسافرنا أن الضابط مولع بهذه الآلة، ضليع في تفاصيل تشغيلها، مناصر لها من الناحية التقنية، لكنه كذلك مؤيد لها من الناحية المعنوية والأخلاقية، خصوصاً أنها من اختراع القائد السابق الذي بذل جهداً لصنعها. وخلال الحديث الذي يدور حول هذه الآلة وفوائدها وأسلوب عملها بين الضابط والمسافر، نلاحظ كيف أن المحكوم نفسه يصغي إلى الحديث وهو مقيد إلى واحد من الحراس. المحكوم يصغي إلى الحوار، لكنه لا يبدي أي رد فعل إنساني، كأن الأمر لا يخصه: لا تبدو على وجهه سوى سمات البله والبلادة... ويبدو لنا واضحاً أن أحداً لم يكن قد كلف نفسه جهد إعلام المحكوم مسبقاً بأنه محكوم بالإعدام وبأنه سيعدم بتلك الآلة الغريبة. بل سندرك بسرعة أن أحداً لم يحاكم في حضوره. لا أحد طرح عليه سؤالاًَ ولا أحد استمع إليه. كل ما في الأمر أن الضابط الحاضر الآن هو الذي أعلن الحكم، وهذا النوع من الحكم يكون عادة من دون استئناف. وهنا، إذ نعرف هذا من طريق الضابط الثرثار نلاحظ كيف أن الضابط لا يتوقف عن امتداح هذا النوع من العدالة، أمام المسافر، في الوقت نفسه الذي يسهب فيه في الحديث عن طريقة عمل الآلة: فالمحكوم سيربط عارياً إلى ما يشبه السرير الذي يطوى. ثم وإذ ربط على ذلك النحو ينغلق نوع من الغطاء عليه، وهو غطاء مزود بإبر زجاجية حادة تكون مهمتها أن تحفر فوق جسد المحكوم العاري عبارة تقول «كرّم رئيسك». والذي يحدث هنا، كما يخبرنا الضابط، من طريق إخبار المسافر، هو أن المحكوم وهو في ذلك الوضع، يبدأ بعد مرور أول ست ساعات على تنفيذ الحكم، بتفسير العبارة وقراءتها إذ صارت عبارة عن جراح تغوص في جلده... غير أنه لن يفسر أو يقرأ بحزن أو ألم، بل وهو يشعر بأقصى درجات اللذة. وهو - أي المحكوم - يموت عادة بعد انقضاء 12 ساعة على بداية تنفيذ الحكم. لكنه لا يموت إلا وقد تحرر تماماً. وإذ يصل الضابط في شرحه إلى هنا نفهم أنه الآن يعتمد على المسافر كي يقنع المحكوم الذي لا تزال البلاهة مرسومة على وجهه، بصواب هذا الأسلوب وفوائد الآلة وعدالتها. ولكن، بما أن المسافر يسارع إلى التعبير عن عدم موافقته، لا يكون أمام الضابط إلا أن يطلق سراح المحكوم، ثم يلتفت إلى الآلة ويبدأ بتعديل الجملة التي تحفرها فوق الجلد. فالجملة الآن تصبح «كن عادلاً». والضابط ما إن ينتهي من أحداث ذلك التعديل حتى يتعرى ويكسر سيفه، ثم يتمدد داخل الآلة ويشغّلها. ولكن بعد حين، وبعد أن تكون الآلة قد اشتغلت أمام ناظري المسافر كما ينبغي لها أن تشتغل، تتوقف عن العمل البطيء في شكل مباغت، وهي هنا بدلاً من أن تحفر الكلمة ببطء على جسد الضابط، تخرق جسده تماماً بحيث يموت أمام أنظارنا من دون أن يكون فعل التحرر قد طاوله. أما المسافر، فإنه هنا يصطحب المحكوم السابق والحارس ويعود إلى المدينة، وهناك في مشرب الشاي، يبدأ بتأمل قبر القائد السابق، إذ إن القبر موجود تحت إحدى الطاولات في المشرب، ثم يشير تجاه رفيقيه إشارة تهديد واضح أن الغاية منها ردعهما عن اللحاق به، وينسحب ليصل إلى مركبه، من دون الآخرين.
> كما أشرنا، تنوعت التفسيرات في شأن هذه الرواية، وتنوع الحكم عليها من جانب النقاد والدارسين، غير أن كثراً من هؤلاء لم يترددوا أبداً في اعتبارها واحدة من أهم أعمال كافكا. بل رأى بعضهم أنها تلخص كل «التيمات» التي ملأت دائماً تلك الأعمال. فهنا نجدنا أما موضوعة الوحدة والألم والإدانة والعبث، غير أنه من الواضح أن ما من واحدة من هذه الموضوعات يمكنها أن تشكل وحدها مفتاحاً أساسياً كافياً لفهم العمل ككل، إلى درجة أن نقاداً كثراً تساءلوا: هل ثمة، في الأصل، تفسير مطلق ونهائي لـ «مستوطنة العقاب»؟ من دون أن يجدوا جواباً قاطعاً لسؤالهم هذا. من هنا، اكتفوا بالقول أن فرانز كافكا (1883 - 1924)، وكما في أعماله الرئيسية اكتفى هنا، بدلاً من أن يتنطح لإيصال رسالة ما، اكتفى بأن يطرح الأسئلة - أو على الأقل تعبيراً واحداً من هؤلاء النقاد - اكتفى بأن يخلق مناخاً يجبرنا بالضرورة على أن نطرح على أنفسنا جملة من أسئلة أساسية تتعلق بحياتنا وكينونتنا ومصيرنا...
> حين كتب كافكا هذه الرواية القصيرة، كان في السادسة والثلاثين من العمر، وكان يحس أن نهايته تقترب، بسبب إصابته المبكرة بالداء الذي قضى عليه شاباً، ومع هذا - وعلى عكس ما كان يمكننا أن نتوقع - لو قارنا بين «مستوطنة العقاب»، وبين أعمال أساسية أخرى لكافكا (مثل «المحاكمة» و «القصر» و «أميركا»). سيدهشنا مقدار الإصرار على الحياة وعلى الخلاص، البادي واضحاً، في الأقل في نهاية هذه الرواية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق