بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 18 يناير 2015

◘ «الربيع العربي» وصقيع الشتاء - بشار إبراهيم

ربما هي المصادفة وحدها التي جعلت «الربيع العربي» يغلق عامه الرابع، على إيقاع عواصف مناخية قاتلة، أخذت الانتباه، واستأثرت بالأخبار، إلى درجة أن موت أطفال ونساء وشيوخ، متجمدين في صقيعها طي خيام اللجوء، وانعدام الخدمات والحمايات، بات أحد العناوين الأبرز للمأساة، التي يمكن أن تنافس ضحايا «هجمات باريس»، وتطغى على قتلى الحروب «المستدامة» التي صارها «الربيع».

لكأنما القحط السياسي الذي يلفّ المنطقة، ويرميها في أتون التآكل الذاتي المدمّر، يتحالف مع القحط الصقيعي الذي استجلبته موجات البرد، لتتجمّد الأطراف وتتوقّف القلوب، في مشاهد أسى لم تعرفه المنطقة منذ عقود، إلا عبر حكايات الجدات عن «الثلجة الكبيرة»، وما جرته من ويلات حينها.
مشهد واحد لمراسل تلفزيوني يصوّر طفلاً في مهبّ عاصفة الثلج، يمكن أن يكشف مدى البؤس الذي أمكن لعدد من المحطات التلفزيونية العربية التعامل مع هذه المأساة، ليس فقط بعيداً عن المهنية والاحتراف، بل قبل ذلك بعيداً عن الإنسانية ذاتها، ليتحوّل الطفل إلى فأر تجربة قاتلة، كرمى تقرير لا تتعدّى مدته دقائق، يمكن أن تكون الموت بعينه.
وعلى رغم أن حملة شنّها عدد ممن شاهدوا التقرير عبر «فايسبوك»، إلا أن الدلالة الأكثر بشاعة تتمثّل في أن هناك من يمكن له، بدم بارد، استغلال قتل البرد لطفل، من أجل تحقيق غاية سياسية تحت عنوان «قتله من جاء به هنا»، أو هدف تلفزيوني لمزيد من إقبال المشاهدين الذين بات بعضهم على مقدار من الفضول حتى لمشاهدة لقطة موت ولحظة إعدام، أو لقاء مكسب ومنفعة لا قيمة لها.
وهي من جهة أخرى، دلالة تناقض مع أدنى مواثيق شرف العمل الإعلامي والمهني، بل والإنساني، التي بات من المألوف خرقها تلفزيونياً في الفضاء العربي، خلال السنوات الأخيرة، حتى صار من المتعذّر تعدادها أو إحصائها، بدءاً من هذه اللقطة التي تصوّر طفل العراء القاتل، وصولاً إلى تلك المذيعة التي ترجم شعباً كاملاً، فتتهمه بامتهان الدعارة سبيلاً لبناء اقتصاده الوطني، وما بينهما من انتهاك لحُرمات الموتى، وجثث الضحايا، في استمتاع غريب لكاميرا مجنونة تتأمل الأشلاء تنزّ بالدماء، والوجوه جمّدها الموت، والرؤوس المقطوعة.
«الربيع العربي» لا يدفئ ضحاياه وموجات الصقيع لا تجد الرحمة بين أدنى صفاتها. وعلى بوابة السنة الخامسة لا يبدو أن دفء الأمل لا ينوي أن يتسرّب من شقوق الخيام التي أثقلها الثلج، وتحت قماشها المهترئ يئنّ شعب، من دم ولحم وأحاسيس وذاكرة... شعب منكوب يتعامل معه بعض الإعلام العربي، بوصفه «مادة» إعلامية، بحسب تعبير المخرج رشيد مشهراوي في فيلمه الوثائقي «رسائل من اليرموك»، وكم كان صائباً، وقاسياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق