بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 12 يناير 2014

كيف يُحكم لبنان؟ طارق زيدان

يستذكر سياسي لبناني زمن الحريرية السياسية، ويرجع بالذاكرة في عام 1998، وتحديداً يوم اجتمع الرئيس رفيق الحريري ومجلس المطارنة في بكركي. يحكي أنه عندما سأل أحد أصحاب السيادة عن قضية إطلاق سراح سمير جعجع، أجاب الحريري مباشرة: «لكنه مجرم... هكذا يقول القضاء». يسود صمت يكسره أحد الأساقفة بسؤال: «لماذا لم يحاكم سواه؟». يرد الحريري: «لنتفق إذاً... تريدون إطلاق سراحه أو سجن الباقين؟»، فضحك الجميع وطوي الموضوع.
للحوار أعلاه دلالات عدة لناحية العقل السياسي اللبناني، فبعيداً من توصيفات هذا العقل بالباطنية والطائفية والخدماتية، وبعيداً أيضاً من التحليل الأكاديمي للموقع الجغرافي واحتكاكه بالنظام السياسي والمسمى بالجغراسياسية، ثمة دلالة واحدة تطرح نفسها: كيف لنا أن نفهم آلية صناعة القرار في لبنان؟
غالباً ما أثارت آليات اتخاذ القرار في لبنان تساؤلات عدة تبدأ من ديموقراطية النظام وصولاً إلى مدى استقلالية الدولة. فالاشتباكات السياسية والأمنية سمة مستمرة على أرض لبنان، ومعظم القرارات الرامية إلى تعزيز الاستقرار والديموقراطية - مع أهميتها - تظل معطلة عن التطبيق في أروقة الدولة. كذلك تتصرف جميع القوى السياسية باعتبار أن الدولة ليست صاحبة الدور الريادي لكل أمر في الحكم. يكمن هذا التجاهل والتعقيد أساساً في بنية النظام المزدوجة التي تستمد مشروعيتها من اتفاق نهاية الحرب (اتفاق الطائف)، وممارستها من استقرار المنطقة إقليمياً. لهذه الثنائية نشأة يمكن تتبع سيرتها منذ قيام لبنان الإمارة، فالقائمقامتين فالمتصرفية إلى لبنان الكبير.

لا يؤرخ لأي اتفاق إلا من خلال الممارسة. هذه الممارسة تصنع السياسة، فقد اعتمد النظام اللبناني في آخر صورة له مبدأ التوازن بين السلطات الثلاث (رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس النواب، ورئاسة مجلس الوزراء) ظناً بمصممي الهيكل أن هذه العلاقة تضمن عدم الاستئثار بالسلطة كحد أقصى، وتعطيل خيار الحرب داخلياً كحد أدنى، إلا أن الحروب الأهلية مكلفة وجاء الثمن السياسي على تفعيل هذه المعادلة من خلال شرعنة «مجلس وزراء» مجتمع قانونياً وجامع ميثاقياً، وهنا تكمن آلية العمل السياسي في النظام.

حين تمّت التسوية الدستورية الأخيرة نتيجة اتفاق الطائف، كان ما يرشح منها هو الطلب بحفظ روح الاتفاق المذكور، غير أن ثمة أموراً لا يمكن إغفالها أو حتى القفز من فوقها، فقانونية وميثاقية أي قرار سياسي تخضع للمتفقين لا للاتفاق نفسه. من خلال هذه الممارسة المركبة، تكون المسألة بالنسبة الى اتفاق الطائف مرتبطة مباشرة بعاملي الآلية القانونية لصناعة القرار والمهمة الميثاقية لحماية التوازن.

ولدت وثيقة الوفاق الوطني التي يصطلح على تسميتها «اتفاق الطائف» في تاريخ 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1989، ووافق عليها مجلس النواب اللبناني في جلسته التي عقدت في مطار القليعات بتاريخ 5 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، وتضمنت أربع فقرات أساسية هي: المبادئ العامة والإصلاحات، وبسط سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، وتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، والعلاقات اللبنانية- السورية. وبناء على هذه الوثيقة، أُدخلت التعديلات على دستور 1926، وتمّ التصويت عليها في المجلس النيابي في 21 أيلول (سبتمبر) 1990.

يصف كريم بقرادوني الرئيس السابق لحزب الكتائب الصراع الحالي بأنه صراع «داخل الطائف» وليس «على الطائف» لناحية تحسين المواقع. التهافت حول الثلث «المعطل» للموالاة و «الضامن» للمعارضة هو انعكاس لهذا الصراع. فبعد 20 عاماً ومع اختلاف المشهدين الإقليمي والمحلي، تبرز الحاجة الدائمة للرجوع إلى المرتكزات النصية للطائف. لا حاجة للتعمق بعيداً في نص الاتفاق، فالقيمة السياسية لقانونية أي قرار تكمن في تحديد نصاب الثلثين في مجلس الوزراء لـ14 قراراً وصفت بكونها «أساسياً» كما هو منصوص عليه: «أما المواضيع الأساسية، فإنها تحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء. وتعتبر مواضيع أساسية ما يأتي: تعديل الدستور، حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، الموازنة العامة للدولة، الخطط الإنمائية الشاملة والطويلة المدى، تعيين موظفي الفئة الأولى وما يعادلها، إعادة النظر بالتقسيم الإداري، حل مجلس النواب، قانون الانتخابات، قانون الجنسية، قوانين الأحوال الشخصية، إقالة الوزراء».

في خضم الحملة الانتخابية الأخيرة للرئيس رفيق الحريري ومساعيه لاستكمال تحالفه مع «حزب الله»، تقدم الحريري للسيد حسن نصرالله بطلب صريح: «عند تأليف الحكومة أريد أن أحصل على ثلث عدد المقاعد الوزارية». باستغراب واضح يتساءل الأمين العام للحزب عن مغزى هذا المطلب. يجيبه الحريري: «حتى أصد عني مناكفة وزراء لحود وبري داخل المجلس الوزاري». محطة أخرى وتحديداً عند تشكيل الرئيس سعد الحريري حكومته مع إصرار قوى «8 آذار» على الثلث، يذكر السيد في شرحه لهذا المطلب: «الفضل للمرحوم والدك، هو من دلنا على الثلث النصابي في الحكومة».

فرضت عملية سد الثغرات نفسها كإشكال من زاوية التوازن عند انسحاب الجيش السوري. وتم تداولها إعلامياً عند المساءلة عنها من البطريرك صفير الذي أُلبس صفة أحد عرّابي اتفاق الطائف، فالهاجس التوازني مسألة ملازمة لنشأة «الطائف» وأهله. الكل يتذكر كيف كان النواب المسيحيون عند كل مفصل من المفاوضات في مدينة الطائف يطلبون من النواب المسلمين عدم الحكم على الدستور من خلال عهد أمين الجميل وممارسته. ألف سيناريو وسيناريو للفوضى والشلل، ففي خضم تنامي الفجوات الفاضحة، تطورت الإشكالات ذاتها لتنقل الصراع إلى شكله الوظائفي، من شرعية الحكومة، ونصاب انتخاب رئيس الجمهورية، وصولاً بعد الانتخابات النيابية حول تسمية رئيس الحكومة إلى أزمة التكليف دون التأليف. من الواضح أن هذه الثغرات لم تترك للدستور أو الأعراف السياسية للاحتكام، بل لضابط إيقاع خارجي يشرف على الانتظام.

فعلياً، أخرجت آلية عمل وثيقة الوفاق الوطني مطبخ صناعة القرار من المؤسسات الرسمية والنظامية إلى نظام ظل يعمل من خلال شخصيات معينة، وفي صالونات خاصة تسعى للمناورة تارة وللتفاوض تارة أخرى إلى أن يتم التوافق. عندها تُدرج المقررات المتفق عليها في جدول الأعمال للتصويت داخل مجلس الوزراء. المهمة الميثاقية واضحة، وهي عدم تعريض مؤسسات الدولة للاشتباك.

أكثر من محطة جسدت عمل هذا النظام السياسي الموازي، فمثلاً عند انكسار الحلف الرباعي بين (حزب الله، تيار المستقبل، حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي) لم يعثر على أي بند قانوني أو حتى مؤسسة حكومية تدعم أو تساند التحالف، بل تم الذهاب إلى محطة أخرى اسمها «اتفاق الرياض» لإعادة تثبيت هذا التحالف بمباركة سعودية، وعند سقوط هذا الاتفاق تم اللجوء عندئذ إلى الشارع.

يوصف الرئيس فؤاد السنيورة بشخص تنضح البيروقراطية منه بشكلها السلبي، وهو ما كان غالباً. الرئيس رفيق الحريري يلجأ إليه داخل مجلس الوزراء للمناورة والتمويه. تكفي إشارة من الحريري إلى السنيورة يقوم عندها الوزير بضرب أحد البنود المقررة في جلسة مجلس الوزراء بوابل من التعقيد النظامي تجعله مجمداً عن التصويت. جلسة جلستان وحتى ثالثة تطير إلى أن يتم إبلاغ الحريري باتفاق جميع القوى السياسية من خارج مجلس الوزراء ومن طريق المستشارين. تعقد الجلسة الرابعة مع استمرار تحفظ السنيورة وسط استغراب الأعضاء الباقين. بتململ واضح، يتساءل الحريري عن هذا التصرف، فيجيبه السنيورة بأنه يعمل وفق قناعاته. بنبرة رئيس لمرؤوس يرد الحريري: «اترك قناعاتك واعمل واجباتك». بعيداً من الأسطورة ومن السياق ذاته، يتضح أن الرئيس رفيق الحريري لم يمارس دوره كرئيس لمجلس الوزراء من خلال النظام الرسمي فقط، بل كانت غالبية حركته السياسية تدور في منظومة سياسية تعمل بإدارة سورية ومباركة إقليمية على سد الثغرات.

بعد حسم هوية الوطن اللبناني ونهائيته، وبحكم تحول اتفاق الطائف دستوراً للبلاد، تمت ممارسة الوظائف السياسية الجديدة للرئاسات الثلاث كما جاء في بند المبادئ العامة والإصلاحات في وثيقة الوفاق الوطني. عند الممارسة اختلفت القوى السياسية على مقتضى هذه الإصلاحات وغيرها، من تجريد لسلطة رئيس الجمهورية إلى حدود سلطة رئيس الحكومة، غير أن هذه الأزمة ليست أزمة تفسير، بل أزمة معاودة تفعيل لـ «اتفاق الطائف»، فهذه الإصلاحات وغيرها حدود عملها يكون السقف الاستراتيجي الذي أعاد تشكيل الأمن السياسي على أساس التوازن، وفي عالم سياسة التسويات، يبدو لبنان بنظامه دولة فريدة من نوعها تستخدم آليات ديموقراطية تهدف إلى ضمان المشاركة في الحكم، وأخرى توافقية هدفها الحفاظ على مبادئ العيش المشترك تستحق عندها وصف «الديموقراطية التوافقية» بامتياز.

* كاتب سعودي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق