بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 14 يناير 2014

◘ مدرس إلزامي علي سالم

شتاء 1956، بعد العدوان الثلاثي، ضائع دون عمل.. طلب مني صديقي أن أعمل معه في مدرسة خالد خشبة الابتدائية. إنها نفس المدرسة التي التحقت بها عندما كنت طفلا، لم تكن ابتدائية في ذلك الوقت، كانت أولية إلزامية. كلمة إلزامية كانت تعني في ذلك الوقت البعيد من طفولتي، أن ولي أمر
الطفل الذي لا يحضر الدراسة تفرض عليه غرامة فورية، ربما كانت جنيها كاملا عن كل يوم
غياب، وهو مبلغ كان يمثل ضربة قاضية في تلك الأيام، العمل.. مدرس فصل.. يعني إيه يا صديقي؟ يعني بتعمل إيه؟
فقال: يعني أدخل الفصل الصبح وأكتب على السبورة «حساب»، ثم أجلس مكاني وآخذ في قراءة رواية أحضرتها معي، وبعدها بساعة يعني في الحصة الثانية، أمسح كلمة حساب وأكتب كلمة قراءة ثم أواصل قراءة الرواية، وبعدها بساعة أكتب كلمة إملاء، وهكذا إلى أن ينتهي اليوم.
لم أوافق على منهجه في التدريس غير أنني وافقته على العمل معه بعد أن أقنعني أن صاحب المدرسة سيرحب بي لأنه يبحث عن مدرسين. دخلت الفصل، مر علي الناظر الذي هو أيضا صاحب المدرسة، طلب مني ألا أبدأ التدريس إلا بعد أن أحصر الغياب، بعد حصر الغياب تطوع بعض الأطفال لإحضار الغائبين، بعضهم أحضره أولياء أمورهم قسرا، كانوا يصرخون ويبكون ويقاومون دخول الفصل، غير أن الأمور استقرت في النهاية بعد عدة لسعات أو لسوعات من الخيرزانة التي لم يكن الناظر يسير بغيرها. كان لا بد أن أتعرف على مستوى الفصل، فتحت كتاب المطالعة وسألتهم: مين يعرف يكتب الموضوع ده؟
قال طفل بحماسة وبثقة شديدة: أنا يا فندي.
بدأ يكتب على السبورة، بدأت أشعر ببعض الغيرة، خطه كان جميلا ويكتب بقوة وثقة ربما أفتقر أنا إليهما. قلت له: برافو.. اقرأ بقى اللي كتبته..
نظر الطفل إلي وإلى السبورة بخوف: مالك يا بني.. بأقول لك اقرأ اللي انت كتبته.
فقال في خجل وعجز: ماعرفشي يا فندي..
يا إلهي.. الطفل كان يرسم الحروف بغير أن يعرفها، إنها نفس المدرسة التي تعلمت فيها القراءة والكتابة عندما كنت طفلا وقد يكون نفس الفصل، كنا نجيد قراءة ما كتبناه، فماذا تغير؟
منهج التدريس هو الذي تغير، بعض العباقرة سافروا في بعثات تعليمية وعادوا بمنهج جديد يسمى «الطريقة الكلية» اتضح أن الطريقة التي تعلمنا بها نحن هي طريقة جزئية تفكيكية تابعة حتما للعهد البائد. العقل الجمعي للمجتمع المصري في ذلك الوقت استولت عليه فكرة واحدة هي التخلص من كل ما هو قديم وذلك بنسفه. كلمة النسف بل وفكرة النسف كانت منتشرة جدا في تلك الأيام، هكذا فرضت على الأطفال المصريين طريقة في التعليم سماها المصريون طريقة شرشر بديلا عن وزن وزرع. منذ تلك اللحظة، بدأت أفكر في الكارثة التي نمر بها الآن.. تعلم الأطفال رسم الحروف وعجزوا عن قراءتها، ثم نسوها وبعد أعوام خرجوا من المدارس أشد جهلا. لا بد من الاعتراف أن الميدان الوحيد الذي نجحنا في تنميته هو الأمية، نقص كل شيء وزادت الأمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق