بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 نوفمبر 2014

. في رثاء البصرة - صلاح حسن

تتراجع مدينة البصرة الغنية بالنفط، أقصى جنوب العراق، يوماً بعد آخر، ما يثير الريبة والسخط. أكثر من عشر سنوات مرت على التغيير لكن المدينة تغرق في النفايات والفساد بما يدعو إلى الدهشة. قصص كثيرة هي أغرب إلى الخيال منها إلى الواقع تحدث يومياً في أرض الخيرات والماء والنفط والشعر والفلسفة، عن السلاح والحشيش المهرب والدواعش والعاهرات والمغامرين الذين يدخلون المدينة بألفي دولار لا أكثر.
شركة نفط أجنبية لا يحق لها أن تُدخل أكثر من سبعين خبيراً إليها، استطاعت أن تدخل أكثر من ثلاثمئة شخص كخبراء عن طريق شخصين عراقيين يعملان في شركة نفط البصرة تابعين لحزبين إسلاميين يحكمان جزءاً من المدينة. بيديهما الأختام التي تمكّنهما من منح فيزا لمن يرغب في الدخول مقابل ألفي دولار. نصف المبلغ يذهب إلى خزانة الحزبين. قبل أن تفوح رائحة هذه الفضيحة بلغ عدد الذين دخلوا البصرة كخبراء أكثر من 1850 شخصاً من بينهم دواعش وتجار عرب وأتراك وعاهرات ومروجو حبوب مهلوسة. عقوبة الموظفين هذين كانت الاكتفاء بنقلهما إلى دائرة أخرى بعيدة عن شركة نفط البصرة بتأثير من الحزبين اللذين ينتميان إليهما.أما النفط الذي يهرب إلى دول الجوار بعشرات آلاف البراميل فلم يتحدث عنه أحد. كميات السلاح التي تدخل مع مقاتلين أجانب لم يذكرها أحد لسبب بسيط هو أنها أصبحت من اليوميات المملة لسكان المدينة. المخدرات وحبوب الهلوسة هي أيضاً مما تحتاجه المدينة للهروب من هذا الكابوس اليومي فلا اعتراض عليه من أحد، خصوصاً الشبان الذين وجدوا هذا الترياق الملهم للانخراط بفعاليات دموية حضّ عليها رجال الدين في كل المناسبات.تحتاج مدينة البصرة إلى أكثر من مرثية: للماء والتراب والناس، بل للحيوانات أيضاً. أما الماء، فيكفي المرء أن ينظر إلى نهر العشار الذي تحول مجرى للمياه الثقيلة في مركز المدينة تحيط به النفايات من كل صوب، بحيث يشعر الناظر أن المدينة تغرق بصمت في القذارة. شط العرب هو الآخر تزداد نسبة الملوحة فيه يومياً إلى مقادير مهولة قد تحوله حقلاً من الملح في سنوات قليلة، ومعه الأسماك والحيوانات النهرية.
تتراجع المساحات الخضراء في بندقية العراق ويختفي نخل البرحي في كل مكان، خصوصاً في أبو الخصيب، حيث تحل قصور من طرز معاقة ودكاكين للحدادين وعشوائيات تخدش وجه الطبيعة، ويختفي التمر والسمك والطيور لتظهر غربان غريبة تمتص رحيق المدينة التي تدر على العراق يومياً أكثر من بليوني دولار.في شارع الاستقلال، أهم وأطول شوارع المدينة القديمة التي بقيت على حالها منذ السبعينات، يشعر العابر أنه يمر في مدينة مهجورة بسبب الحروب التي تناوبت عليها. المباني توشك على السقوط والأرصفة محطمة ومتربة والأزبال تنتشر في كل مكان، ولولا وجود الناس في الشوارع وصوت ضوضاء السيارات لأوشكت على الموت تماماً.
ولا أحد يشكو: فالناس لديهم ذاكرة مليئة بالدم والمرارة في هذه المدينة التي طعنت عشرات المرات، من خارج الحدود ثم من داخلها بعد 2003 حيث القتل والخطف والصراع على السلطة والمال. كل شيء يمكن أن يبرره سكان المدينة وقد نلتمس لهم العذر في ذلك. لكن لماذا تغص المدينة بالفساد والقذارة؟ ومن أين تتأتى لهؤلاء الناس القدرة على مواصلة العيش هكذا، وهم المعروفون بالكرم والطيبة والنظافة والرقة؟ وكيف تحولت هذه المدينة المنتجة للجمال والفلسفة والفنون مدينة رثة في كل شيء؟! السكان لا يتحملون أياً من هذه المسؤوليات، هم الذين طحنتهم الحروب والصراعات الداخلية والخارجية. وأهم من هذا أن أمر المدينة ليس في يدهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق