بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 22 نوفمبر 2014

«القتلة اللامرئيون» لنورمان انجيل: عميان البصيرة يصنعون التاريخ - ابراهيم العريس

الفارق بين «عميان البصيرة « الذين لا يرون ما يحدث على رغم انه يحدث امام أعينهم، وأصحاب الرؤية المتبصرة الذين يرون الأخطار مبكرين، هو ان الأُول يساهمون في دمار العالم، بينما يحاول الآخرون إنقاذ ما يمكن. ونحن نعرف، من تجارب التاريخ، ان الأرجحية هي دائماً لعميان البصيرة، الذين يساعدون الأخطار على الوقوع، ثم يندمون لاحقاً ولسان حالهم يقول: «لو كنا نعرف...». ولعل هذا الكلام ينطبق أكثر ما ينطبق على مثال عانى منه القرن العشرون ما عانى: مثال صعود هتلر والنازية في أوروبا سنوات الثلاثين من القرن العشرين. فالحال ان هتلر إذا كان حقق وجوده بفضل أوضاع بائسة وذليلة عاشها الشعب الألماني بفعل هزيمته في الحرب العالمية الأولى، فإن ذلك الوجود ما كان من شأنه ان يتحول خطراً على الإنسانية جمعاء وكارثة حلّت بالإنسانية، لولا تلك القوى العريضة التي حتى من دون ان تكون قد ساندته كلياً - غضّت النظر عن صعوده وقد عميت بصيرتها عن دلالات ذلك الصعود والمكان الذي سيوصل إليه. وهذه القوى راوحت يومها بين تيارات وطنية وقومية وقومجية سكتت عما يحدث أو تواطأت معه، ولو نكاية بأعدائها المرحليين. ومن هنا حتى نقول ان «العميان» هم الذين يصنعون التاريخ، ويصنعونه في شكل سيّء يذكّر بما كان ماركس يقوله عن «المجرم ودوره في صناعة التاريخ»، خطوة يمكن لمن يراجع تاريخ تلك المرحلة الزمنية ان يقطعها بسهولة. لكن الأمر بالنسبة الينا هنا يتوقف عند العام 1932، حين انتفض كاتب إنكليزي أطلق على نفسه اسم نورمان انجيل (واسمه الحقيقي رالف نورمان انجيل لين) ضد ذلك العمى المستشري في كتاب له عنوانه «القتلة اللامرئيون». وانجيل كان سبق له ان نال شهرة عالمية كبيرة بفضل كتاب سابق له هو «الوهم الكبير» تناول الموضوع نفسه. فما هو هذا الموضوع؟
> انه بالتحديد صعود الأصوليات، الفاشية في ذلك الحين، ولا سيما صعود الهتلرية التي كانت تصعد وسط صمت عالمي مريب. وبالنسبة الى انجيل، ليس في ذلك الصمت موقف سياسي بل ممارسة عضوية مرتبطة بتربية الإنسان نفسه، مؤكداً ان «الصعوبات التي نعيشها والفوضى التي نعانيها حالياً إنما تأتي من جهلنا وربما من تجاهلنا لحقائق بسيطة واساسية لا تساعدنا التربية على إدراكها والإحاطة بها حقاً». ويرى أنجيل ان المصائب والكوارث الكبرى التي يعانيها العالم، نادراً ما تكون ناتجة من نزعة شر مقصودة، مؤكداً ان «الحرب، وفي معظم الأحيان لا تتأتى من رغبة دُرست وفُكرت بعمق». بل يمكن القول، بالأحرى «ان كل طرف من أطراف النزاع إنما يدخل الحرب بنيّات طيبة ومخططات محدودة» ومن هنا يتأتى الخطر الأكبر والحقيقي. وهذا الواقع هو الذي يدفع انجيل في كتابه الى ان يقول اننا، نحن معشر البشر الذين نفكر ونمضي وقتنا في الافتخار بأننا نفكر لا نعرف في الحقيقة كيف نفكر. بل إن الدراسة الجامعية التي نحصل عليها نادراً ما تعلمنا اموراً كان يتعين على الحس السليم أصلاً ان يعلمنا إياها من دون ان يحتاج الأمر الى دراسات جامعية... وهذه الأمور هي حقائق بديهية بسيطة وأساسية لها علاقة بكينونتنا كبشر.
> واضح هنا ان انجيل إنما يتبنى على طريقته ذلك القول الشهير الذي يفترض بأن الذين يخوضون الصراعات مجهزين لها كل قوتهم وأساليب إقناعهم، يعرفون دائماً كيف يبدأون تلك الصراعات، لكنهم لا يعرفون ابداً متى وكيف ستنتهي. ومن هنا فإن الكارثة لا تبدأ على شكل كارثة، بل تبدأ على شكل كيدي، يخوضه طرف من أطراف الصراع، وهو معتقد انه سيحقق فيه انتصاراً يغلّب وجهة نظره ومصالحه، آخذاً في الحسبان، فقط دراسته هو لتوازن القوى، وتقديره المسبق - والخاطئ دائماً - لقوة الخصم، بصرف النظر عما لهذا الخصم من قوى، واضحة أو خفية، وعما يمكن لظروف غير محسوبة ان تنتجه فتقلب الموازين. ويرى انجيل في هذا الإطار ان المعضلة الكبرى، والتي تؤدي هي دون غيرها، الى الكارثة، تكمن في أطراف ثالثة تقف متفرجة، أو في تلك الأطراف التي تقف في الجانب - الخطأ من الصراع، من دون ان تحسب حسابات حقيقية. وللتأكيد على ما يذهب إليه، يورد إنجيل في هذا القسم من كتابه عشرات الأمثلة المستقاة من التاريخين القديم والحديث - في زمنه - متوقفاً، بهدوء وتأمل، عند كل حال من الحالات مستذكراً الظروف التاريخية مبرهناً في كل حال، كيف انه كان في الإمكان تفادي الكارثة لو أدرك كل فريق ما يفعل منذ البداية، وأدرك منذ البداية ايضاً، ان ما من خوض للصراع تمكن من تحقيق غايته في اية مرحلة من مراحل التاريخ.
> وإنجيل بعد ان يستعرض كل تلك الأمثلة، يبدو من الواضح ان نظرته تتركز على ما كان يحدث في تلك السنوات ولا سيما على «صعودين» سياسيين - ايديولوجيين، كانا في أفق الأحداث الأوروبية والعالمية في ذلك الحين: صعود هتلر في ألمانيا، وصعود موسوليني في إيطاليا. وكان انجيل يرى ان الشر لا ينبع فقط من ذينك الصعودين، ولا حتى من الاستسلام - امام هذه الفاشية الشعبوية - الذي مارسته قطاعات عريضة من الجماهير فـ «هذه الجماهير ليست بأي حال قادرة على ان تحسم الأمور بمفردها لا انتخابياً ولا في الشارع، لولا وجود قوى اعتقدت دائماً انها من الشطارة والحذق بحيث تلتف على الموجة لاحقاً لاستيعابها والإفادة منها». ويقيناً ان من يراقب ما يحدث في زمننا هذا سيلاحظ ان مثل هذا التأكيد أو التحليل ينطبق على أمور كثيرة تحدث من حولنا، بدءاً من القوى العراقية التي، إذ ساندت التحرك الأميركي لإسقاط الديكتاتور في بلادها، لم تدرك مسبقاً ما سيجره ذلك التحرك من ويلات، وصولاً الى قوى سياسية قومجية عربية تحاول ان «تستفيد» من ازدهار التطرف والأصوليات املاً في ان تتفاقم الأمور، كما قال احد الناطقين باسم تلك القوى «بحيث تتمكن قوى التطرف والأصولية من الانتصار في معركتها فنلتف نحن عليها ونمسك مقاليد الأمور، لأنها - هي، في طبيعتها - غير قادرة على ذلك»! ان هذا التأكيد المضحك المبكي كان يمكن ان يُسأل عنها أقطاب التحرك العلماني والمعتدلون وتجار البازار أيام الثورة الإسلامية في ايران من الذين وقفوا الى جانب الثورة، فكانوا من أول ضحاياها. وهي سمة دائمة من سمات الثورات التي تأكل «ابناءها» قبل ان تأكل أعداءها كما نعرف (ولم تشذ عنه لا الثورة الفرنسية ولا الثورة الروسية ولا حتى الثورة المصرية ولا الكوبية). وليس هذا كله سوى الدرس الذي أراد ان يطلع به في كتابه «القتلة اللامرئيون» هذا، الكاتب الإنكليزي نورمان انجيل الذي خلص في الفصل الأخير من هذا الكتاب، الذي يبدو اليوم منسياً، للأسف، الى انه «إذا كان الإنسان، أصلاً، لا يرغب ابداً في ان يترك المجال واسعاً لولادة الشرور الاقتصادية والسياسية، أو لولادة الظلم، أو التسبب في اندلاع الحرب، فإنه مع هذا يمارس، وفي شكل اعمى ومستديم، سياسة لا تؤدي إلا الى تلك النتائج، وذلك، وبكل بساطة، لأنه - أي الإنسان - يبدو دائماً عاجزاً عن الإدراك المسبق للنتائج التي سيسفر عنها تحركه أو - في أحسن الأحوال - سكوته عن تحرك القوى الشريرة التي يكون من مصلحتها ان تتحرك. اما القتلة اللامرئيون الذين يعنيهم نورمان انجيل (1874 - 1967) في عنوان كتابه فهم تحديداً، الشرور الاجتماعية التي تفلت دائماً من بين ايدينا، مهما كنا من ذوي النيّات الطيبة، لتقتلنا وتدمر كل ما بنيناه. ترى هل يعني بهذا سوى ان درب الجحيم عادة ما تكون مفروشة بالنيّات الطيبة؟ مهما يكن لا بد من ان نقول ان انجيل عاش طويلاً بعد صدور كتابه هذا، عاش وشاهد بأم عينيه كيف ان الإنسان لا يتعلم، حتى بعد كل ما يحيقه بنفسه من خراب وقتل ودمار... لا يتعلم ليس فقط لأنه لا يريد ان يتعلم... بل خصوصاً لأنه غير قادر على ان يتعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق