بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

فلسطين تحتاج خطة مقاومة لا عمليات دهس - ماجد كيالي

لا يشكّل قيام بعض الفلسطينيين بعمليات فردية ضدّ إسرائيل تطوّراً جديداً، أو غريباً، سواء تمثل ذلك بإطلاق رصاص أو طعن أو دهس، فهذه يمكن احتسابها، بغض النظر عن تقييمها أو جدواها، في إطار ردّات الفعل الطبيعية للبشر للتعبير عن الدفاع الفطري عن الذات، ومعنى الوجود، ضد الاحتلال أو الاضطهاد أو الامتهان أو التهميش.

وفي غضون التساؤل عن جدوى عمليات كهذه، فمن الأجدى ألا ننسى أن الفلسطينيين في هذه الحالة هم الضحيّة التي تتعرّض للمحو، المادي والمعنوي، منذ أكثر من ستة عقود، بحكم السياسات التي تنتهجها إسرائيل ضدّهم، وحرمانهم من حقوقهم في وطنهم، ومن هويتهم، وسلب ممتلكاتهم، وامتهان كرامتهم، والمسّ بمقدساتهم، وأن ذلك يحصل أيضاً بعد 66 عاماً من قيامها على حسابهم، و47 عاماً على احتلالها الضفة وغزة، وأكثر من عقدين على قيام قيادة الفلسطينيين بالمجازفة السياسية الأكبر والأخطر في تاريخ شعبها، التي تضمنت الاعتراف بإسرائيل على 78 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية، وفق اتفاق أوسلو (1993)، من دون أن يعني ذلك شيئاً لإسرائيل أو لأغلبية الإسرائيليين.
القصد أن تفاقم الشعور بالغضب واليأس وفقدان الأمل الناجم عن صلف إسرائيل، وغطرستها، وإصرارها على الاستمرار بالاحتلال والاستيطان، وتجاهل حقوق الفلسطينيين، هو الذي يخلق البيئة، والدافع لردّات فعل من هذا الطراز.
بيد أن ما ينبغي إدراكه جيداً في خضمّ ذلك، أن تفهم دوافع هذا النوع من العمليات، وحتى التعاطف مع روح التمرّد والتحدّي، والتوق للتحرّر والعدل عند الفلسطينيين، لا يعفي من المسؤولية عن ضرورة رؤية النصف الثاني من الحقيقة، التي تتمثل بنكوص ثقافتهم السياسية، وافتقادهم لاستراتيجية نضالية، وأفول حركتهم الوطنية، مع التقدير لروح الحرية والكرامة عند الشهداء إبراهيم العكاري ومعتز حجازي وعبد الرحمن الشلودي، وغيرهم.
المعنى أن هكذا عمليات فردية، مهما كان شأنها، ليست بديلاً، أو لا تعوّض غياب استراتيجية فاعلة ومناسبة لمواجهة الاحتلال، ولا الافتقاد لحالة مقاومة مجتمعية، من نمط الانتفاضة الأولى، أو من نموذج المقاومة الشعبية ضد الجدار والاستيطان ومصادرة الأراضي، مثلاً، وهي لا تسدّ الفراغ الناجم عن انزياح فصائل المقاومة عن فعل المقاومة، بكل أشكالها، بعد أن تحوّلت إلى سلطة في الضفة وغزة، في حين أنها باتت تكتفي بالتغنّي بمثل هذه العمليات وتتسابق على إعلان مسؤوليتها عنها.
الآن، إذا كان يمكن تفهّم هذا النوع من العمليات، كما ردود الفعل الشعبية العفوية والعاطفية عليها، فإن التهليل أو التنظير لها من قبل بعض الفصائل، أمر لا يمكن فهمه أو قبوله، فهو دليل عجزها، واستهلاك دورها، وافتقادها القدرة على توليد استراتيجيات كفاحية جديدة، تتناسب مع إمكانات شعبها وقدراته والظروف المحيطة به، من دون أن تمتلك الشجاعة لمصارحته بذلك.
الواضح من ردّات الفعل عموماً أن الفلسطينيين لا يدرسون تجاربهم، ولا يستنتجون أو لا يتعلمون جيداً منها، وأنهم يصارعون إسرائيل بتضحياتهم وعنادهم (وبسلاح الديموغرافيا) أكثر بكثير مما يصارعونها وفق استراتيجية سياسية تؤسس لمراكمة الإنجازات لصالحهم. وما يفاقم ذلك أنهم يواجهون دولة تعتمد التخطيط، وتمتلك مرونة عالية في اجتراح البدائل، وصوغ السيناريوهات، التي تحبط كفاح الشعب الفلسطيني، أو تفرغه من مضامينه.
مثلاً، لنلاحظ أن إسرائيل التفّت على الإنجازات الوطنية المتحقّقة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987ـ1993)، بعقدها اتفاق أوسلو، الذي مكنت فيه منظمة التحرير وفصائلها من العودة إلى الضفة وغزة، لكن ثمن ذلك كان تجزئة القضية الفلسطينية، واعتبارها مجرد قضية أرض محتلة عام 1967، والإطاحة بالمنظمة، وتهميشها، مع كل ما تمثله من رمزية بالنسبة لوحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة قضيته. بعد ذلك قامت إسرائيل بإفراغ هذا الاتفاق من مضامينه، بتعزيزها الأنشطة الاستيطانية، وسيطرتها غير المباشرة على الفلسطينيين في مجالات الاقتصاد والبنى التحتية والأمن، بحيث حولت الحركة الوطنية الفلسطينية إلى مجرد سلطة تحت الاحتلال.
ولنتذكر أن إسرائيل كانت حوّلت في الانتفاضة الأولى مقاطعة العمال الفلسطينيين العمل في المؤسسات الإسرائيلية (وكان عددهم وقتها حوالى 150 ألفاً) من سلاح بيد الانتفاضة إلى سلاح ضد الانتفاضة، باستعاضتها عنهم بعمال من أوروبا الشرقية، بحيث فقد المجتمع الفلسطيني آنذاك، مصدراً كبيراً من مصادر الرزق التي تمكنه من الصمود في أرضه، ما عمَّق اعتماده على المعونات الخارجية.

في ما بعد، وكردّ على الانتفاضة الثانية (2000- 2004)، التي غلب عليها البعد العسكري وشهدت خلالها المواجهات الفلسطينية- الإسرائيلية ذروتها، بحيث قتل في شهر واحد (آذار- مارس/2002) حوالى 130 من الإسرائيليين، مع انتهاج العمليات التفجيرية، انتهجت إسرائيل ما سمي خطة الفصل من طرف واحد، بحيث قامت ببناء الجدار الفاصل وشق الطرق الالتفافية وتعزيز النقاط الاستيطانية، للحد من الاحتكاك مع الفلسطينيين، وتقييد حركتهم والحد من التواصل بينهم. وإضافة إلى ذلك فقد قامت إسرائيل أيضاً بإغلاق «بيت الشرق»، الذي كان يعتبر بمثابة مقر لمنظمة التحرير، ومعه مختلف المؤسسات الفلسطينية، كما تم منذ ذلك الوقت وضع قيود مشددة على دخول الفلسطينيين إلى القدس، والصلاة في المسجد الأقصى، الأمر الذي أخرج المدينة المقدسة من معادلة الانتفاضة على النحو الذي كانته في الانتفاضة الأولى، وهذا واقع ما زال مستمراً إلى اليوم.
أيضاً، هذا ما يمكن استنتاجه من انسحاب إسرائيل الأحادي من غزة (2005)، إذ تحولت هذه العملية من كونها بمثابة «تحرير» لجزء من الأرض الفلسطينية إلى سجن لحوالى مليوني فلسطيني، إضافة إلى أنها خلقت واقعاً من التجزئة بين فلسطينيي الضفة والقطاع، بعد أن جزأت بينهم وبين الفلسطينيين اللاجئين. ولنلاحظ اليوم حال القطاع المأسوية بعد ثلاثة حروب تعرض لها، إذ إن التضحيات التي بذلها فلسطينيو القطاع، والبطولات التي أبدوها في مواجهة ثلاثة حروب مدمرة في غضون ستة أعوام، لم تمكِّنهم من تغيير واقعهم، سيما أنهم ما زالوا يعتمدون على إسرائيل في المياه والكهرباء والمحروقات والمواد الصيدلانية والتموينية.
ما ينبغي إدراكه من قبل الفلسطينيين، فوق كل ما تقدم، أنهم لا يعيشون في جزيرة معزولة، وأن مقاومتهم لوحدهم، على أهميتها، حتى لو كانت في أرقى أحوالها، لن يكون بمقدورها تغيير موازين القوى مع إسرائيل، التي تتمتع بفائض قوة عسكري وبضمانات حماية دولية، ناهيك عن احتكارها السلاح النووي، إلا في ظروف عربية ودولية مغايرة ومناسبة.
المغزى من ذلك أن الفلسطينيين، وكي تثمر تضحياتهم ومقاوماتهم، معنيون بالموازنة بين شكل كفاحهم والبيئة المحيطة بهم، أي أنهم يحتاجون مع العاطفة والتصميم إلى الحكمة، لا سيما في هذه الظروف الصعبة والخطيرة. وبشكل أكثر تحديداً، ففي ظل هذا الخراب العميم في الواقع العربي، ولا سيما في المشرق العربي، يمكن إسرائيل أن تستغل ذلك للقيام بأي ردة فعل، ربما لتغيير الواقع في القدس أو بعض مناطق الضفة. ولنلاحظ أن العالم الذي تحمل كل هذا الخراب في سورية والعراق، وضمنه تشريد الملايين، وقتل مئات الآلاف، سيتحمل بعضاً من ذلك إزاء الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وهو الأمر الذي ينبغي على الفلسطينيين بشكل خاص التحسّب جيداً لمخاطره، وتفويت أي مقدمات له. وقد يفيد هنا أخذ بعض العبر مما يجري في سورية، وضمنه ما جرى للفلسطينيين في سورية، ناهيك عن الأحوال السائدة في غزة. وباختصار، فإن المقاومة ليست عملاً مزاجياً، ولا عمل هواة، وليست ردة فعل، وإنما هي عمل يتضمن تضحيات ومخاطر، لذا فهي تتطلب أقصى قدر من الحكمة والتبصر وحسن التدبير أيضاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق