بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 26 نوفمبر 2014

♣ «شرف كاتارينا بلوم الضائع» لهاينريش بول: سنوات الجمر الألمانية - ابراهيم العريس

«شرف كاتارينا بلوم الضائع» هو كما يعرف هواة السينما، عنوان واحد من أفلام المخرج الألماني فولكر شلوندورفالذي كُرّم قبل أيام في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. وهو فيلم حُقق سنة 1975 ليعرض على نطاق واسع ويثير ضجة وردود فعل، ليس فقط بصفته واحداً من أكثر أفلام الموجة السينمائية الألمانية الجديدة، شعبية، بل أكثر

من هذا بصفته واحداً من الأفلام التي دنت بقوة مما كان يعتبر في ذلك الحين منطقة الخطر والخطوط الحمر: مسألة الإرهاب وردّ الفعل تجاهها. صحيح أن الفيلم أتى ملتبساً بعض الشيء بحيث إن التباسه ساهم في إثارة ضجيج كبير وسجال أكبر حوله، لكن الدنو من الموضوع في وقت كانت المعركة لا تزال محتدمة بين السلطات الألمانية الغربية والفصائل الإرهابية المسلحة، لا سيما جماعة بادر ماينهوف، إن لم يكن بالسلاح فعلى صفحات الصحف وفي أوساط المثقفين على الأقل. غير أن ما لا بد من الإشارة إليه هنا، هو أن الفيلم مأخوذ في الأصل من رواية كانت صدرت السنة السابقة لسنة تحقيق الفيلم وتحمل العنوان نفسه، وهي من تأليف الكاتب هاينريش بول الذي كان فاز سنة 1972 بجائزة نوبل للآداب. وكان بول حين أصدر روايته وضع لها عنواناً ثانوياً هو: «كيف يمكن العنف أن يتطور وإلى أين يمكنه أن يؤدي». وكما يبدو واضحاً من هذا العنوان الثانوي، كان جلياً أن هاينريش بول، إضافة إلى كتابته عملاً أدبياً خالصاً، يريد أن يجعل من هذا العمل مرافعة سياسية قد تبدو في البداية مرافعة ضد الإرهاب، لكنها في الحقيقة أتت مرافعة ضد السياسيين والإعلاميين، من دون أن تحمل أي قسط من الدفاع عن الإرهابيين.

> من هنا، يصح أن نقول إن بول، في روايته هذه، وضع عناصر الصراع الثلاثة على قدم المساواة وصوّر، ببراعته الفنية المعهودة، كيف أن هذا الصراع غالباً ما يقع ضحاياه أناس لا علاقة لهم به. وأن هؤلاء الضحايا لا يجب أن يدان، في شأنهم، الإرهابيون دون غيرهم، لأن ثمة ما هو أشد خطراً على حياة الضحايا وعلى شرفهم، من الإرهابيين: إنه الصخب الإعلامي. وعلى هذا النحو اعتبرت هذه الرواية واحداً من أول الأعمال، في الأزمان الحديثة التي لا تدخل في كورس التركيز على طرف واحد من أطراف المعادلة في الصراع الذي نتحدث عنه، بل يمكن القول أيضاً إن الإدانة التي وجهها هاينريش بول في هذه الرواية إلى نوع معين من الصحافة، تعتبر الأقسى. والحقيقة أن هاينريش بول إنما فتح الطريق واسعاً منذ ذلك الحين لفضح تلك الصحافة التي يقوم جوهر وجودها على الفضائح. من هنا، لعل في الإمكان القول إن «الشخصية» المحورية في هذا العمل هو صحيفة من نوع التابلويد اسمها «داي تسايتونغ» (أي صحيفة «الأخبار»)... ولئن كانت هذه الصحيفة في اسمها هذا خيالية من ابتكار هاينريش بول، فإنه في الحقيقة رسمها انطلاقاً من نموذج كان ولا يزال موجوداً في ألمانيا، يمثل صحافة الفضائح وأشهره «بيلد - تسايتونغ».
> تدور أحداث الرواية، إذاً، حول صحافة الإثارة والفضائح التي وجدت الأرض خصبة لتحركها في ألمانيا الغربية وسط ذلك المناخ السياسي والأمني العصيب الذي عاشته ألمانيا الاتحادية خلال السنوات السبعين من القرن العشرين يوم استشرت العمليات الإرهابية التي كانت تقوم بها منظمة «الجيش الأحمر». وتدور الحبكة حول خادمة تدعى كاتارينا بلوم تُقدّم لنا بريئة، حدث أن دُمرت حياتها بفعل تضافر تكالب صحيفة الفضائح ورجال الشرطة عليها، يوم تبين أن الرجل الذي تحبه إنما هو سارق بنوك. فالصحيفة ورجال الشرطة، وكل منهم لهدف، تحالفوا موضوعياً ضد تلك الفتاة ليتهموها ظلماً بالتواطؤ مع حبيبها على اعتبار أنها هي أيضاً إرهابية مثله. والرواية تبدأ، من النهاية، حيث نرى في مشهد يدور في بيت كاترينا بلوم، كيف أن هذه السيدة ولسبب نكون، بعد، جاهلين به، أردت صحافياً قتيلاً. وبسرعة تطل الخلفيات علينا. فالصحافي ليس هنا مجرد صحافي عادي، بل هو المحرر الذي كتب عن كاترينا، عدداً من المقالات يبتغي من خلالها التشديد على أنها مثل حبيبها، متورطة، في أعمال إرهابية. هذا الصحافي، منذ يكتشف وجود كاترينا، وإذ لا يتمكن من العثور على أي عنصر آخر يغذي رغبته في كتابات مقالات الإثارة والفضائح، يبدأ بملاحقتها ومطاردة أهلها ومعارفها، مختلقاً من دون هوادة، حكايات تتسم بالبشاعة والتزييف من حول حياة الفتاة وتنقلاتها... وعلى هذا النحو تتحول كاتارينا التي لا يكون لا ناقة لها ولا جمل في الأمر عند البداية، لتصبح طريدةً وهدفاً، ليس للصحافة الفضائحية المثيرة فقط، بل كذلك لمجموعات وأجهزة استخبارات تزداد مع الوقت شكوكها حول علاقاتها ونياتها... في البداية تصبر كاتارينا على هذا كله من دون أن تدرك أن كل هذه الأكاذيب سينتهي بها الأمر إلى تدمير حياتها. لكنها في النهاية، إذ تجد أن حياتها قد دُمّرت بالفعل، وإذ تجد أن ما من أحد مستعد لإنصافها وسماع دفاعها الصادق عن نفسها وتصديق براءتها، لا يعود أمامها إلا أن تقدم على فعل أخير: تطلق الرصاص على الصحافي. وقد لا نكون في حاجة هنا إلى الإشارة إلى أن تعاطف القراء ثم متفرجي الفيلم لاحقاً مع هذه الجريمة التي تقدم عليها كاتارينا بلوم، أثار ضجة كبيرة وسجالاً واسعاً رد عليه هاينريش بول بقوله: «وأنتم لو حدث هذا معكم، ووجدتم أنفسكم عرضة لمطارق إعلام كاذب لا يرحم، ما الذي كان من شأنكم أن تفعلوه؟». كان سؤالاً لقي آذاناً صاغية من قبل كثر رأوا أن إقدام كاتارينا على قتل الصحافي أهون ألف مرة مما اقترفه هذا الأخير حين دمر حياة كاترينا وسمعتها.
> من الناحية الفنية، وكما أشرنا، روى لنا هاينريش بول الحكاية، بضمير الغائب... كما رواها منطلقاً من النهاية، أي من حيث تعترف كاتارينا بلوم بقتلها الصحافي العامل في صحيفة الفضائح، ثم تعود الأحداث القهقرى إلى حيث نراها تلتقي بالشاب الذي أعجبها وأعجبته إذ جمعتهما حفلة راقصة في بيت صديق. وتقيم كاترينا علاقة مع الشاب من دون أن تعرف أنه سارق بنوك إرهابي. من هنا، تكون مفاجأتها كبيرة حين تطرق الشرطة بابها في اليوم التالي وتصطحبها إلى دائرة البوليس للتحقيق معها، إذ تشتبه في أنها تساعد صديقها الإرهابي. وهنا تلتقط الصحيفة الحكاية وتبدأ حملة التشهير بالفتاة من دون رحمة أو تمحيص. فبالنسبة إلى الصحافي لا بد من مواضيع مثيرة، وها هو الموضوع المثير يصله على طبق من فضة: الموضوع هو كاتارينا وحياتها وانضمامها إلى الإرهابيين وكونها شيوعية... وهكذا تبدأ لعبة القط والفأرة بين كاتارينا والصحافي... حتى ينتهي الأمر بها وقد تحولت، بإطلاق النار عليه إلى مجرمة حقيقية هذه المرة، ولكنها مجرمة يتعاطف الجمهور معها.
> قد لا تكون هذه الرواية أقوى ما كتب هاينريش بول خلال مساره المهني الذي دام عقوداً ولم يتوقف إلا مع رحيله سنة 1985، لكنها بالتأكيد الرواية الأكثر شعبية وإثارة، إذ إن بول رسم من خلالها صورة لوضعية كان أناس كثر يشتكون منها. ولقد ساعد على تعاطف القراء مع هذا العمل - الذي ترجم بسرعة إلى لغات عدة - أن كثراً كانوا مستائين حقاً من ذلك النوع من الإعلام الذي كان لا يعبأ بتدمير حياة الناس إن لاحت له الكتابة عنهم مثيرة ومدرة للأرباح. ونذكر أن هاينريش بول كان في تلك السنوات يعتبر، ليس فقط ضمير ألمانيا الحي، بل كذلك ضمير أوروبا الساعي إلى الحرية، إذ إن صاحب أعمال كبيرة مثل «القطار يصل في موعده» و «صورة سيدة مع مجموعة»، كان في ذلك الحين من كبار مساعدي منشقي المعسكر الاشتراكي على الوصول إلى أوروبا لاجئين، من دون أن يكون هو نفسه يمينياً أو معادياً للمعسكر الاشتراكي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق