بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

◘ راشد الغنوشي واجتثاث «البعث» - فرات ناجي - العراق

أخيراً انجلى غبار المعركة الانتخابية التونسية عن فوز حزب «نداء تونس» وتراجع حركة «النهضة» الإسلامية إلى المرتبة الثانية، وسط تغنٍ بالشفافية، وتمكّن تونس من تجنب مصائر غيرها من بلدان الربيع العربي، كعلاج نفسي على ما يبدو للذات العربية الجريحة بعد أن ذوت أزهار ربيعهم.

محاولة ترميم الربيع العربي بوصفة تونسية، والمخاوف من مصير محمد مرسي، كما ذكرت صحيفة «دايلي تليغراف» البريطانية، حكمت تعاطي زعماء «النهضة» مع النتائج، فقد اتصل راشد الغنوشي بزعيم حزب «نداء تونس» القائد السبسي مهنئاً إياه بالفوز الانتخابي، وفق قاعدة «مكره راشد ... لا بطل»! كما شبّه الغنوشي خسارة حزبه بصلح الحديبية، مؤكداً أن ما حصل في تونس هو فتح!
وتحمل نتائج الانتخابات التونسية دلالات عدة خطيرة ومفيدة في الوقت نفسه:
فهي تمثل أولاً، عودة واضحة لرموز النظام السابق من النوافذ الانتخابية، بعد أن هربوا من الأبواب الرئاسية، فمؤسس حركة «نداء تونس» السبسي ذو الـ88 عاماً من «الفلول» المتميزين، فهو رئيس البرلمان في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي فضلاً عن توليه مناصب في السلك الديبلوماسي في العهد نفسه، ناهيك عن كونه عضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم حتى 2003، مع ما يعنيه ذلك من انتماء أيديولوجي لفكر المؤسسة السياسية التي أطاحت بها الثورة.
«لم تتبق سوى عودة بن علي». هكذا علّق عمر صحابو أحد أبرز الصحافيين التونسيين على هذه العودة اللافتة لرجال ووزراء الرئيس المطاح به، في وقت لم يكن أحد من هؤلاء في انتخابات 2011 قد تجرأ على الظهور إلى العلن، فما بالك بالترشح!وتقرأ النتائج ثانياً بأنها تراجع للحركة الإسلامية التونسية أمام خصم مشتت لا يجمعه إلا رفض الإسلاميين ، فالسبسي لا يراهم سوى «رجعيين» و» ظلاميين» يفصله عنهم 14 قرناً، و»أكبر خطر على تونس»! لا بل يعتقد بأن «النهضة والنداء خطان متوازيان لا يلتقيان إلا بإذن الله ... فإن التقيا فلا حول ولا قوة إلا بالله» ، وهو أمر يعبّر عن توجه صارم، وبداية مرحلة جديدة ليست بالهينة على حركة «النهضة» التي تحتاج لتلافي أخطارها المتوقعة.
ويبدو من اللافت أن الغنوشي الذي وصف خطابه دوماً بالمتميز والمغاير لغيره من الإسلاميين لم ينجح في تحجيم اتساع شعبية منافسيه، كما إنه ظل يسير على قناعة الاستفادة من نكبات غيره، فوقع فيما كان يحذر منه، لأنه، على ما يبدو، لم يحسن قراءة تجاربهم، لا سيما في العراق.
ففي نيسان(ابريل) 2010 كتب الغنوشي عن «تطييف الإسلام وخطر الحل العلماني»، مستشهداً بالتجربة العراقية، وناعياً نظام المحاصصة المتخلف، ومشيداً وقتها بما أفرزته الانتخابات العراقية من بدايات مهمة (هكذا) لتوجه وطني واضح، وبخاصة في وسط السنّة العرب الذين صنعوا المفاجأة من خلال انضوائهم بشكل عارم ضمن القائمة العراقية الوطنية المتجاوزة للطوائف، فكان متزعمها علمانياً شيعياً ضمن توجه عام لتجاوز المنطق الطائفي المدمر.
الغنوشي قدم أمنيته آنذاك بأن يرى شيعة وأكراداً ضمن الفعاليات السياسية السنّية، في حين لم يطالب بالعكس، وهو أمر لافت ويشبه طروحات البعض اليوم للعرب السنّة فقط بتبني الخطاب الوطني، في حين يقف الشيعة ضمن المواكب الحسينية يلطمون، كما ظهر أخيراً من قبل المالكي وشلته.
اليوم وبعد أربع سنوات، ظهر للعيان خطاً تصورات الغنوشي الخاصة بالعراق، وإنه أفتى بما لم يعلم، فالسنّة يجترعون مرارات تأييد القائمة العراقية التي كانت لعبة استخباراتية بعثية ميعت هويتهم أمام تمسك الآخرين بها، وضيعت سنواتٍ أربع أوصلتنا من دون مبالغة إلى العيش تحت حكم «داعش» و«ماعش» وما بينهما من حشد طائفي وميليشيات ترتدي الزي الرسمي.
لقد أفرزت الانتخابات التونسية قناعة مهمة وعززتها، وهي إنه من الخطأ منح الحياة للأنظمة السابقة التي أسست الدولة العميقة التي تغلغلت الى أقصى الدرجات في جسد الأوطان، فالغنوشي ارتكب وحركته خطاً فادحاً حين تراجعا عن قانون «العزل السياسي» الذي يشبه إلى حد كبير «اجتثاث البعث في العراق»، ظانين أن خطاب الوحدة الوطنية لديهم ولدينا هو الطريق السليم.
إن أحزاب الأنظمة المستبدة لا يمكن أن ينصلح حالها، لأنها تأسست على محو الآخر، وهكذا يجب أن تعامل، والشواهد كثيرة، فقبل أشهر كان الجميع ينتظرون أول ظهور علني لوزير خارجية صدام (ناجي صبري)، وحبسوا أنفاسهم قبل الإدلاء بشهادته للتاريخ الذي ذبحه من اللحظة الأولى، بتكرار اسطوانة النضال والمقاومة والممانعة المزعومة، متماشياً على ما يبدو مع المشروع البعثي الحالي في العودة الى السلطة، لا سيما وهو القابع في قطر والمتنعم بخيراتها ضمن مشروع استقطاب البعثيين المريب من قبل دول في الخليج.
إن تجربة البعث في العراق، وما حصل في مصر، واليوم في تونس، درس بالغ لكيفية التعامل مع الأنظمة السابقة من جهة، وتأكيد أن تقويم تجارب الآخرين يستلزم وعياً بالبيئة لا تصنعاً للذكاء الذي يخون صاحبه في أول تجربة حقيقة تشابهها.
ولذلك: مخطئ من ظن يوماً أن لصدام وعزة ومبارك وبن علي وزبانيتهم ديناً. فلم ينكّب أهل السنّة إلا يوم أبقوا البعث على قيد الحياة، ومنحوا الفرصة للعقل المأفون ليفكر ويخطط، تحت مزاعم الوحدة الوطنية والاستفادة من التجارب. وفي تونس، كما العراق، يبررون تقبل السبسي لأنه رجل دولة يمكن أن يفيد البلاد بخبرته السياسية، وهو العذر نفسه الذي يحاول بعضهم فيه إلغاء اجتثاث البعث عندنا ومحو سجلهم الدموي الذي يرفضون حتى الإقرار به.
ويفوت الغنوشي والكثيرين أن التمسك بهوية المكون هو الأصل للانطلاق في مواجهة مشاريع الآخرين، لا سيما حين تحمل طابعاً أيديولوجياً واضحاً، كما هي الحال اليوم في العراق... وتونس!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق