بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 8 يناير 2014

«قسمة الظهيرة» لبول كلوديل: الصراع الروحي في بحار الصين إبراهيم العريس

ثلاثة أفكار هيمنت دائماً على الكاتب الفرنسي بول كلوديل، فتحولت الى موضوع رواياته وأشعاره وهجس بها حتى أيامه الأخيرة: الخطيئة، السعادة، والغفران. وهذه الأفكار الثلاثة هي التي لن يفوتنا ان نجدها مجتمعة معاً، في واحد من أهم أعماله: مسرحية «قسمة الظهيرة» التي كتبها عام 1906، لكنها لم تقدم على خشبة المسرح للمرة الأولى إلا عام 1948، أي قبل وفاة كلوديل بسبع سنوات،
وفي وقت كان أضحى في الثمانين من عمره. حين كتب كلوديل «قسمة الظهيرة»، كان لا يزال دون الأربعين، وكان في ذلك الحين يمر بأزمة روحية عميقة تنعكس صراعاً عنيفاً في داخله... والحال أننا نجد كل هذا الصراع وهواجسه، كما نجد تفاصيل أزمة كلوديل في هذه المسرحية المؤلفة من ثلاثة فصول، والتي يفضلها كثر حتى على تلك التي تعتبر من اهم أعماله المسرحية بل واحدة من أعظم المسرحيات الشعرية التي ظهرت في اللغة الفرنسية في العقود الأخيرة من السنين، «حذاء الساتان».
> تدور أحداث «قسمة الظهيرة» في مكانين: المكان الأول يقع وسط مياه المحيط الهندي على متن سفينة تتجه الى الشرق الأقصى، أما المكان الثاني فهو ميناء يقع جنوب الصين. ولئن كانت المسرحية تمتلئ، هنا وهناك بشخصيات وأحداث متعددة، فإن المكانة الرئيسة فيها معقودة لشخصياتها الأربع الأساسية: إمرأة وثلاثة رجال. أما موضوع المسرحية الطاغي إن لم نقل الوحيد، فهو حكاية الغرام والعلاقة بين هذه المرأة الثلاثينية والفائقة الحسن، وكل من هؤلاء الرجال. فهي زوجة واحد منهم، والعشيقة السابقة للثاني... وها هي الآن وقد اصبحت حبيبة للثالث. غير ان هذا التقسيم ليس في حقيقته سوى تقسيم خطي تبسيطي، ذلك أننا مع تقدم الأحداث في مجرى المسرحية سيتبين لنا أن المسائل ليست بالبساطة التي نتصورها، وأننا لسنا هنا أمام «فودفيل» من النمط المعهود في المسرح الاجتماعي الفرنسي الذي كان سائداً في ذلك الحين ويقوم انطلاقاً من ذلك المثلث الشهير: الزوجة، الزوج والعشيق. وليس هذا فقط، لأن ثمة طرفاً رابعاً هنا، بل لأن الصراع الأساس ليس بين الرجلين، أو على الأقل، ليس بين اثنين منهما وغايته الحصول على حب المرأة وجسدها، إنما هو داخل كل من الشخصيتين المحوريتين، اللتين سرعان ما تطغيان على القسم الثاني من المسرحية، حين يصل الأربعة الى المدينة الصينية. وهاتان الشخصيتان هما: إيزي المرأة، وميزا الرجل الثالث الذي ما إن التقته على الباخرة حتى شعرت من فورها أنها واقعة في غرامه، على رغم وجود زوجها الذي كانت أنجبت له أولاداً كثراً، والزوج هو دي سيز، وهو رجل عقلاني براغماتي من الصعب أن ينفعل عاطفياً مهما حدث. غير أن سهولة تقبّل الزوج «نزوات» زوجته، يقابلها شعور ميزا باستحالة غرقه في حكاية الحب مع هذه المرأة التي يمكن أن تكون فتاة أحلامه. ذلك أن ميزا رجل دين نذر نفسه أن يبقى الى الأبد بكراً، وأن يضع نفسه في خدمة الرب ونشر دينه، ولذلك هو يتوجه الآن الى الصين. لكن الغرام أقوى منه ومن إرادته. وإذ يشعر به يداهمه ما إن يلتقي إيزي، حتى يبدأ الصراع العنيف داخله بين الروح والجسد، بين الحب والمادة... وهو صراع سيظل يرافقه حتى آخر مشاهد المسرحية. أما إيزي، فإن حبها لميزا حقيقي وصادق، وهو حب روحي وجسدي في الوقت نفسه. لذلك، إذ تجده يتجنبها لخضوعه الى منطق صراعه الذي يفترض به أن يطرد المرأة من حياته، تعيش هي الأخرى صراعها العنيف. وهكذا نعيش نحن معشر المتفرجين خلال القسم الأول من المسرحية، سيرورة هذا الصراع المزدوج... غير ان الأمور لن تكون قد حلت على الإطلاق حين تصل الباخرة الى تلك النقطة الوسطى في المحيط حيث تطلق صفارتها وأجراسها، معلنة انتصاف الزمن.
> بعد ذلك تنتقل الأحداث الى مدينة هونغ كونغ (الفصل الثاني)... وينتقل معها الأشخاص الأربعة، وقد عنف الصراع داخل الحبيبين، الى درجة أن إيزي تسأل زوجها دي سيز، وإن في شكل غير مباشر، أن يساعدها حتى تتمكن من مقاومة الانجذاب الذي تشعر به إزاء رجل الدين... ولكن، لأنها لم تبادر في سؤال زوجها العون مباشرة، يعجز هذا عن فهم ما تريد منه. وهكذا، إذ يعجز العون عن الوصول اليها من طريق زوجها، لا يعود أمامها إلا أن تستسلم تماماً لولعها بميزا.
> وهكذا ننتقل الى الفصل الثالث، الذي تدور احداثه هذه المرة في مدينة صينية جنوبية يحاصرها الثوار... وقد آلى هؤلاء على أنفسهم ان يبيدوا كل السكان البيض القاطنين في المدينة... لقد مرت فترة من الزمن، وتمكنت إيزي قبل فترة من أن تدبر لزوجها مهمة في مكان بعيد سوف لن يعود منها على الأرجح. والآن ها هي تعيش مع آمالريك، الرجل الثالث الذي كان يرافقهما في الرحلة، وآمالريك، الواقعي العنيف والمشاكس والذي يحمل السيجار دائماً بين شفتيه، كان عشيقاً سابقاً لإيزي قبل زواجها... وها هي العلاقة عادت تقوم بينهما في المدينة المحاصرة... بيد أننا من خلال الحوارات سندرك ان إيزي كانت في الفترة السابقة لوصولها الى هذه المدينة عاشت عاماً بكامله مع ميزا، وقد تغلب هو خلال ذلك العام على هواجسه وتمكن من أن يقيم علاقة زنى مع فاتنته... لكنه سرعان ما وعى على نفسه وعلى مهمته الدينية. ومع هذا، فإنه لم يكن هو من تخلى عن إيزي، بل هي التي تخلت عنه، إذ اكتشفت بعد عام من بدء العلاقة الحقيقية بينهما، انها اذا كانت حصلت على جسده وحبّه المادي، فإنها عجزت عن الحصول على ذلك الجانب من روحه الذي كان كرّسه للروح وللرب. وهكذا أحست بالهزيمة للمرة الأولى في حياتها وتركت ميزا لتعيش حياة عادية أقرب الى الابتذال مع آمالريك. والآن، إذ تسير أحداث هذا الفصل، نجد إيزي وآمالريك وقد حاصرهما الثوار الصينيون من كل جانب، ووصلوا الى حد بات من المحتم فيه أن يقبضوا عليهما، ليعذبوهما ويقتلوهما، كما يفعلون ببقية الأجانب البيض. وإيزي وآمالريك، لكي يتفاديا هذا المصير يقرران أن ينتحرا معاً بربط نفسيهما بقنبلة موقوتة. ولكن في تلك اللحظة نفسها يصل ميزا، وقد فهم أخيراً أن إيزي انما تتعذب بسببه وتعاني، وربما سيكمن خلاصه في تخليصها من هذا العذاب. لكن آمالريك يضرب ميزا مفقداً إياه وعيه، ثم يسرق البطاقة التي تخوّل القسيس المرور بأمان عبر صفوف الثوار، ويهرب وقد اصطحب معه إيزي، تاركاً ميزا لكي يموت حين تنفجر القنبلة الموقوتة. ولكن إيزي سرعان ما تعود تاركة آمالريك، وقد قررت أن تشاطر ميزا مصيره الأخير: لمجرد أنها اكتشفت عند تلك اللحظة ان حبهما يمكن أن يعيش أخيراً عبر موتهما معاً... وهكذا، عند نهاية الفصل الأخير نرى إيزي وميزا جالسين بكل هدوء ونعمى في انتظار انفجار القنبلة التي ستمنحهما، أخيراً، ذلك الاتحاد النهائي والأبدي الذي يأملانه بفضل رحمة الرب.
> والحقيقة ان الكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك لم يكن بعيداً من الصواب حين قال عن مسرحية زميله كلوديل هذه إن المهم فيها «هو ذلك الحضور، وسط الطابع التراجيدي الإغريقي الذي يعطي القدر مكانة أساسية، لعنصر إضافي يحول المسرحية من دراما الجسد، الى دراما النعيم الروحي». والحال أن مورياك التقط في هذا جوهر فن بول كلوديل (1868 - 1955)، الذي كان دائماً انعكاساً لعذاباته الروحية. وكلوديل، الشاعر والكاتب والديبلوماسي، أنفق 40 عاماً من حياته الطويلة في العمل الديبلوماسي في خدمة الحكومة الفرنسية، ولا سيما في الولايات المتحدة والشرق الأقصى وجنوب أميركا. وقد زوده هذا مواضيع وشخصيات، كما ان اعتناقه الكاثوليكية منذ عام 1886، طبع موضوعاته بمفاهيم الخطيئة والغفران والصراع الروحي...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق