بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 11 فبراير 2015

«متعة القراءة» للفرنسي دانيال بٍناك.. الدخول إلى قلب النصوص - نديم جرجوره

بعد 23 عاماً على صدور الطبعة الفرنسية الأصلية، يُمكن لقارئ عربيّ مهتمّ أن يغرق في جمالية النصّ ومساراته، عبر ترجمة عربية حديثة. في العام 1992، يُصدر الكاتب والسيناريست الفرنسي دانيال بِناك (مواليد الدار البيضاء في المغرب، 1 كانون الأول 1944) نصّاً أدبياً بعنوان «مثل رواية» («غاليمار»، باريس). في العام 2015، تُصدر «دار الساقي» (بيروت) ترجمة عربية بقلم يوسف الحمادة، واضعة لها عنواناً آخر: «متعة القراءة». التعريف المتداول للكتاب الأصلي معقودٌ على تعابير تختزل مضموناً مفتوحاً على عناوين متفرّقة: «هذا النصّ هو، في الوقت نفسه، نشيد للقراءة وتدنيس لها. دعوة إلى التفكير التربوي بضبطها. فيه أيضاً نقد للتقنيات، ومتطلبات التربية الوطنية وتوصياتها». عناوين مرتبطة بمسألتين أساسيتين: أهمية القراءة، وحبّها. أي أن «متعة القراءة» محاولة أدبية سلسة (ساخرة أحياناً) لتحريض الناس على قراءة لا تُفرض فرضاً، بل تنبع من ذات، ومن جوّانيتها العميقة أيضاً.
بعين ناقدة معطوفة على مراقبة دقيقة لأحوال السلوك التربوي الاجتماعي، بدءاً من منزل الأهل ووصولاً إلى التعليم المدرسيّ ـــ الأكاديميّ، يُقدّم دانيال بِناك صورة حسّية، قاسية وعميقة وواضحة ومباشرة وحقيقية، عن معنى الكتاب، وعلاقة الناس به. يُقدّم صورة عن موقع الكتاب في الوجدان العام، وفي المنهج التعليمي. يستعيد ماضياً قديماً كي يقول شيئاً من تلك الصورة المتعلّقة بأولوية القراءة، قبل الانتقال إلى راهن مرتبك ومتخبّط بين فعالية القراءة وانفضاض «الأبناء» عنها. لكنه ليس انفضاضاً بالمعنى الكامل للتعبير، لأن بِناك يؤكّد أن كل فرد قابل لاكتشاف متعة القراءة فعلياً، شرط أن تتوفّر له ظروف ـــ شروط مناسبة. يُسطّر أسماء كتاب وعناوين كتب. يدخل إلى عقل التلميذ المراهق، ولا يتغاضى عن أنماط التفكير المتحكّمة بـ «الآباء»، سواء كانوا أهلاً أو أساتذة. يسوق أمثلة عن أساتذة يُحطّمون كل تقليد، مُولِين أهمية أولى وقصوى لقراءة مُمتعة. يتسلّل إلى غرفة مراهق «مفروضةٍ» عليه القراءة، كي يُحلّل علاقته الفردية بها. لكنه لا يبقى خارج أروقة المدارس والعقول بل فيها، مُفكّكاً إياها ببطء، وواضعاً أحسن شروط لبلوغ «نشوة» ما في القراءة. او بالأحرى لبلوغ «نشوة» القراءة. يقول أموراً عن كيفية تداول الكتب البديعة، وعن شقيق يُتقن فن إغراء الآخر لقراءة هذا الكتاب أو ذاك. يقف إلى جانب أستاذ يمتلك أجمل طريقة لإزالة كل عائق بين تلامذته والقراءة، معتمداً أسلوباً كلامياً سلساً في تخفيف حدّة الانفصال بين الطرفين. أسلوب مرتكز على إزالة كل توتر داخل كل تلميذ، وعلى إيضاح فحوى هذه الرواية أو ذاك الكتاب، وعلى إدخاله في قلب النصّ من دون أن يشعر التلميذ بأي مصيبة أو نفور. أثناء ذلك، لا يتورّع بِناك عن وصف كل تلميذ بأوصاف مُضحكة، تتلاءم ومزاجيته المتوافقة والعصر الحديث.
لا يكتفي الكاتب الفرنسي بهذا. يُمرّر، بدهاء جميل، أوصافاً لحالات إنسانية خارج إطار الكتب والقراءة. يقول مثلاً: «وهكذا نظنّ أننا نعود من السهرة لننغلق في بيوتنا، لكننا في الحقيقة ننغلق على ذواتنا» (ص. 30). أو مثلاً: «إن كان علينا أن نتعامل مع الحب من وجهة نظر برنامج عملنا اليومي، من كان سيُخاطر ويعشق؟ من يملك الوقت ليكون عاشقاً؟ ومع ذلك، هل رأينا يوماً مُحبّاً لا يجد الوقت للعشق؟» (ص. 112). صحيح أن هذا مرتبطٌ، بطريقة أو بأخرى، بالقراءة وعالمها وتفاصيلها ودهاليزها الجميلة. لكنه مفتوح على خصوصية المرء، والمتاهات الملتبسة والمتناقضة والرائعة لذاته أيضاً. مع هذا، يعود سريعاً إلى الجوهر الأساسي، كأن يقول إن «أغلب القراءات التي أسَّستْنا لم نقم بها (من أجل) بل (ضد)» (ص. 74)، أو: «وعلاوة على ذلك، فإننا نقرأ لمحاربة الموت» (ص. 75)، أو: «إن وقت القراءة مختَلَسٌ دائماً، كوقت الكتابة ووقت العشق» (ص. 111). لكن الأجمل بينها ما يسوقه في نهاية الكتاب، في الصفحة الأخيرة تماماً: «يبني الإنسان بيوتاً لأنه يعرف أنه حيّ، لكنه يكتب كتباً لأنه يعلم أنه فانٍ. وهو يعيش ضمن جماعات لأن لديه غريزة التجمّع، لكنه يقرأ لأنه يعلم أنه وحيد» (ص. 158).
باختصار، يُمكن القول إن «متعة القراءة» كتابٌ مُمتعةٌ قراءته حقاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق