بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 فبراير 2015

في أن الدين لا يموت في الحداثة - رشيد بوطيب

عودة الديني التي تتخذ أشكالاً مرضية وعنيفة، علاوة على أنها غالباً عودة ضد الدين، تعبير عن أزمة الديموقراطية الغربية وإخفاق الحضارة المادية في تحقيق ما وعدت الإنسان به. تعني هذه العودة في البلدان الإسلامية فشل مشروع التحديث، أو اختزال الحداثة في التحديث، فهي عودة مرتبطة بسلسلة إخفاقات، وتعبير مريض عن تلك الإخفاقات، ورد فعل أكثر منها عودة واعية، وتمظهراتها التاريخية تؤكد ذلك.
إنها عودة تدخل في باب تلك الأعشاب الضارة التي تنبت، كما قال غرامشي، بعد انهيار نظام قديم وقبل ظهور نظام جديد، فترسخ الانكفاء إلى وهم هوية وتؤبّد الهروب إلى الأمام. وستقوم هذه العودة على الأقل في سياقنا العربي بأكبر عملية سطو على الدين، مرسّخة قيم الاستبداد، ومتحالفة، هي التي طلبت محاربة الاستبداد، في لا وعي معه. إنها عودة تفرغ الديني من قيمه الثورية وتفرغ مفاهيمه الأساسية، المؤسسة للمسؤولية الإنسانية، من مضامينها الأخلاقية، فتفهم الاستخلاف طاعةً، والإيمان انتماء جماعياً، والتدين خروجاً سياسياً، في نوع من امحاء الذات وتبددها.
فجورج قرم محق حين يؤكد أن عودة الديني ظاهرة سياسية ليس لها من الدين سوى الاسم، وحين يربطها بعولمة أميركية لم تتورع عن استعمال الدين واستغلاله لأغراض سياسية.
فالقيم الكونية التي يحتكرها الغرب الرأسمالي لنفسه ويحرم الآخرين منها وينتفض ضدها الظلاميون الثقافويون، لا تختلف مع روح الشرائع الدينية ومقاصدها الكبرى، بل تلك الشرائع نفسها، يمكن اعتبارها لبنة في البناء المتجدد والمتوهج لهذه القيم، وكل فصل بينهما يظل فصلاً تعسفياً، هدفه الأيديولوجيا أي السلطة، وليس التحرير. وكونية القيم تمثل تنسيباً لأدلوجة الانتماء وللقيم الجماعية البدائية التي تحققت غالباً ضد الفرد وأجهزت بذلك على المجتمع. فتلك الحياة التي تعدنا بها الانتمائوية الجماعية ويبشر بها تجار الخلاص، تؤسس لمجتمع القطيع والطاعة. وتلك الكونية هي التي تدفع منتسبيها إلى فهم الدين في شكل مختلف، وأستشهد هنا برأي فولفغانغ شويبله، السياسي الألماني المعروف، الذي رأى في كتابه «هل يحتاج مجتمعنا إلى دين؟» بأن الفهم الصحيح للإيمان يحمي من السلطة التوتاليتارية ويحول دون سوء استخدام السلطة. وطبعاً، هذا الفهم الصحيح لن يكون إلا فردياً، داخلياً، منفصلاً عن الأغراض الدنيوية.
لا يموت الدين في الحداثة، بل يتخذ أشكالاً حديثة، بعضها عنيف وبعضها متسامح وكلها متحول باستمرار. ومحق الباحث ستيف بروس حين يؤكد في كتابه عن الدين في العالم الحديث، أن العلمانية تعبر عن تراجع سلطة الكنيسة، ولكن ليس بالضرورة تراجع المعتقدات الشخصية. فعبر العلمانية أضحى الدين أمراً شخصياً. وهذا يعني بالضرورة أن فهماً صحيحاً للعلمانية لن يضعها مقابل الدين، بل مقابل السلطة الدينية. ولأن الحركات الدينية في العالم العربي - الإسلامي، تطلب السلطة أكثر من الدين، فلا عجب أن تعلنها حرباً على العلمانية وتختزلها في قراءة أيديولوجية أو أنموذج محدد كالتركي الذي أسسه أتاتورك أو الفرنسي اليعقوبي.
لقد أعلن نيتشه موتاً لشكل من أشكال التدين المسيحي، لفظته الحداثة ورفضته، والرفض نفسه اتخذ أشكالاً مختلفة ومتضاربة، فمنها ما طرد الدين كلية من الفضاء العام، ومنها ما أعاد قراءته في شكل يتوافق مع القيم الحديثة، ومنها ما حدد مجال اشتغاله في شكل صارم أو مرن وفق ما يفرضه السياق، بل من داخل الدين نفسه، كما في المسيحية. هذا المجهول الكبير في الثقافة الإسلامية سترتفع أصوات مطالبة به، باقتسام الحقيقة مع الآخرين والاعتراف بالأديان الأخرى. ليس الدين صيحة من الماضي. وليس مجرد حاجة إلى الاعتقاد، لأن مثل هذه الحاجة سابقة على الدين، كما أوضحت ذلك جوليا كريستيفا. كما أنه ليس مجرد جواب خادع عن سؤال الموت كما يدعي ميشيل أونفري في كتابه الشهير عن الإلحاد. الدين هو كل ذلك، وأيضاً محاولة لمواجهة الواقع. لا يمكن تحديده في مفهوم معين، لأننا أمام ظاهرة متحولة باستمرار، تتخذ وفق السياق الذي توجد فيه، شكلاً معيناً. فلا يمكننا الحديث اليوم، وحتى داخل الدين نفسه، عن شكل محدد للتدين، ولا عن الدين بالمفرد. فقد يكون شكل تدين المواطن المغاربي إلى عهد قريب، أقرب إلى شكل تدين المسيحي الكاثوليكي في فرنسا أو إسبانيا، منه من شكل تدين مسلم من أفغانستان أو العراق أو الخليج العربي. إذاً، صراع اليوم صراع بين من يريد أن يعيش دينه داخلياً، أي في توافق مع منطق الحداثة، ومن يريد أن يعيشه خارجياً، ضد الحداثة. ولن أقول مع مونتين بضرورة أن نعتقد من دون يقين، ولكن بضرورة أن نعتقد من دون سلطة.
فالقلق الذي يعتري القيم الإنسانية التي لا تعني البتة رفضاً مطلقا للدين (لأن الدين لا يموت في الحداثة، ولكن تموت أشكال تديّن وتظهر أخرى) لهو تعبير عن حيوية هذه القيم وقدرتها المستمرة على التطور، مقابل القيم الدينية التي أسس لها الاستبداد، زيّفها وسطا عليها، والتي مسخت الإنسان عبداً.
أجل، يمكن الدين أن يعود، ولكن فقط إذا أدرك لماذا كان عليه أن يرحل!
* كاتب مغربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق