بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 8 فبراير 2015

◘ حبر وملح (جغرافيا مأسوية) - زاهي وهبي

تكتبون عن الآداب والفنون في زمن القتل والذبح والحرق والتدمير؟ بنبرة تمزج اللوم باستفسار يكاد يرقى الى حد الاستنكار يطرح سؤاله وما يضمره من استهجان. الاجابة عن مثل هذه التساؤلات بديهية وهينة لو كنا نحيا في مجتمعات متمدنة باتت أكثر ادراكاً واحتراماً لقيمة الابداع
الانساني وعبرها لقيمة الانسان نفسه، ولدوره (الابداع) في مواجهة ما أشار اليه السائل مما يحاصرنا يومياً حتى بتنا كمن يعيش وسط مقبرة جماعية. لكننا لا نزال أسرى أفكار ومفاهيم ومحرمات تجعل علاقتنا ملتبسة بمعظم ما يساهم في تهذيب النفس البشرية وتشذبيها، وترويض نزعات العنف والشرّ الكامنة فيها، فَمَن يحطّم آلة موسيقية مثلاً ظنّاً منه أنه بذلك يتقرب الى ربّه، لا شيء يَحول بينه وبين قتل عازفها لأجل الغاية نفسها.

معظم الحركات الفكرية والأدبية المفصلية وُلدت من أحشاء حروب وكوارث، وكانت بمثابة رد ابداعي على المآسي التي تتسبب بها سياسات النفوذ والسيطرة وتغييب العدالة والمساواة. واهمٌ مَن يظن أن الحروب قد تضع أوزارها يوماً، لنراجع تاريخ البشرية، منذ وُجد الانسان على هذه الأرض وأنهار الدم تسيل. هذا ليس تبريراً للعنف أو دعوة للتعايش معه، بل محاولة لفهم حركة التاريخ علّنا نستخلص ما يسعفنا على مواجهة مستقبل يبدو كالحاً انطلاقاً من حاضر لا تلوح فيه بارقة أمل. في مذكراته وصف هنري كسينجر لبنان بأنه مساحة مأسوية (وهو أحد المساهمين في جعله كذلك)، اليوم باتت مساحة المأساة على امتداد الجغرافيا العربية التي تحولت الى حلبة للمتصارعين على الأرض باسم السماء، وثمة مَن يبحث عن خلاص ما بالعودة الى ماض مضى، ومحاولة لَيّ عنق الزمن، واسقاطه على حاضر عالق بين مطرقة الاستبداد وسندان التطرف.من رحم فاجعة نحياها تتوالد أسئلة مصيرية صعبة لا مفر من مواجهتها والتصدي لها. العودة الى الوراء مستحيلة لأن الزمن اتجاه واحد يُمنع فيه الالتفاف، مَن يعاكسه سوف يصطدم بكل السائرين الى أمام، والتقدم نحو المستقبل غير ممكن ما لم نستنبط أجوبة واضحة لأسئلة حاضر ملتبس غامض لا يقدم لنا سوى إشارات سير نحو هاوية لا قعر لها ولا قرار. ففي علامات الاستفهام المنتصبة أمامنا كمشانق اليقين، تتقدم ضرورة القبول بقيام دولة مدنية يتساوى فيها الجميع حقوقاً وواجبات في معزل عن انتماءاتهم أياً كانت، وهذا لن يكون بغير تجديد حقيقي في الفكر والفقه الاسلاميين وتحرير النص الديني مما علق به من أوهام وترهات، عبر تقديم قراءة معاصرة له تتناسب وتتناغم مع العصر ومستجداته، وتُعلي شأن الكائن الفرد كقيمة انسانية نبيلة سامية، وتسعفه على التحرر من نزعات العنف الكامنة فيه، وتساعده على الاندماج في الحياة بوصفها نعمةً لا نقمة، وعلى التفاعل مع الآخر المختلف بوصفه انساناً له القيمة نفسها، لأننا جُعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف ونتحاور لا لنتقاتل ونتذابح، ومن المستغرب جداً أننا لم نسمع بعد من المفكرين والفقهاء فتاوى واضحة لا لُبس فيها ولا تأويل تدين ما يجري على الأرض باسم السماء.
علاقتنا بالفكر والأدب والفن، ومن خلالهما بمفاهيم الحرية والعدالة والحوار والتسامح والعلاقة مع الآخر المختلف، هي واحدة من أسئلة كثيرة تحتاج أجوبة جديدة ومجدّدة (بكسر الدال الأولى). ليست الأفكار والآداب والفنون ترفاً أو نوعاً من الكماليات، هي كل ما يمثّل الانسان ويتماثل به.لا يمكن لأمة أن تتطور وتتقدم ما لم يتحرر «عقلها»، وأجمل أدوات تحرير العقل الابداعات المحفّزة على طرح الأسئلة والسعي لتجاوز راهن ضيق نحو آفاق رحبة وأمداء لا متناهية. انطلاقاً من هذا الفهم، نحتفي بكل عمل ابداعي يحرك وجداننا وضمائرنا وأفئدتنا، ويساهم في ازالة الصدأ عن عقولنا، بل نعتبره في هذا الوقت بالذات قيمة مضافة لأنه يتحدى القتل الشنيع وينتصر لنعمة الحياة. ولمن يشك بأهمية الابداع في الحياة فليسأل نفسه لماذا تخشى الأنظمة المتخلفة والتيارات المتطرفة والأصوليات الظلامية الى هذا الحد الابداع والمبدعين؟
ما لم يتحرّر العقل العربي لن نقوى على مواجهة التوحش الذي لا يتجلى فقط بإحراق كائن فرد، بل بإحراق شعوب وأمم على مذبح مطامع قوى عظمى تجيد أكثر من سواها ادارة التوحش وتجييره لصالحها، فيما يتواصل النقاش المنحط: هل يجوز التحريق من عدمه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق