بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 فبراير 2015

مصر بين مذبحة تنظيم «الدولة» ورد جوي خاطف ومفاجئ! محمد عبد الحكم دياب

المتابعة المباشرة تقلل من أثر الانحيازات والتأويلات إلى حد كبير، في ظروف حرب فعلية تستخدم فيها أسلحة مشروعة وغير مشروعة، وتركز على الجانب النفسي أكثر من غيره.. وتابعت مباشرة من قلب القاهرة حدثين كبيرين وقعا في أربع وعشرين ساعة؛ أحدهما كان من البشاعة بما يتجاوز القدرة على التحمل، وتجسد في مشهد ذبح واحد
وعشرين شابا مصريا بيد تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا. والآخر تمثل في ضربة خاطفة ومفاجئة للقوات الجوية المصرية ضد قواعد التنظيم وعناصره ومراكز تجمعه ومخازن تسليحه ومعسكرات تدريبه.. وجاء الحدث الأول على شكل مذبحة تحدت كل طبائع الإنسان والوحش والشيطان على حد سواء؛ عجز أمامها القلم وانعقد عن وصفها اللسان، وتجاوزت ما سجلته وقائع التاريخ القديم والحديث من أشكال ووسائل القتل والإرهاب والترويع والوحشية، ولم يسبقها – في حدود علمي – إلا إبادة العرب والمسلمين في الأندلس، وما عاصرها من إبادة الهنود الحمر مع اكتشاف «العالم الجديد»؛ المعروف الآن بأمريكا.
ومن المؤكد؛ منذ عقود.. أن المستهدف هو مجمل الوطن العربي؛ بسكانه البالغ عددهم 350 مليونا، فهم قلب العالم ومركزه، وعلى الضفة المقابلة لأوروبا، ومدخل عالم الشمال إلى إفريقيا، وجسر عبور يربط آسيا وإفريقيا، وهم أول من عرف الممالك الموحدة (مملكتي الجنوب والشمال في مصر القديمة)، ومن بين ظهرانيهم بدأ التوحيد الديني، وفي ربوعهم اصطفى الله أنبياءه.. فحملوا رسالاته لهداية البشر بلا تمييز، وعلى أرضهم قامت أقدم الحضارات. 
وحديثا، كان لأبنائها فضل المقاومة، وتحرير كثير من أراضيهم المحتلة، وتقديم العون للشعوب المستضعفة، فانتصرت على الاستعمار والاحتلال والاستيطان، وكل ذلك قبل أن تتردى أحوالهم، وتستباح أراضيهم، وتنتهك حرماتهم، ويتحول فقراؤهم إلى أقنان و»ملطشة» الدنيا، ويصبح أثرياؤهم حيتانا وسفهاء العصر، وهم من أعطوا للعالم وجها إنسانيا ومشرقا؛ بتراث روحي وإنساني وعلمي شديد الثراء والغزارة.
وكانت ثقافة الإبادة وما زالت ابتداع خاص بالغرب؛ أتت أكلها مع سقوط غرناطة، وتأسست عليها الظاهرة الاستعمارية، وثقافة استهدفت طمس، وإزاحة كل تراث علمي وثقافي وحضاري وديني «غير أبيض»، إلى أن دخلت الطور الذي يعيشه العالم الآن، واحتاج إبادة من نوع آخر يُعرف بالإبادة الثقافية؛ لتجعل من الإبادة المادية والجسدية تحصيل حاصل.
وكي تنجح تم انتقاء أفراد وجماعات وتنظيمات وفرق من أبناء المناطق والشعوب المستهدفة؛ تعتنق نفس الثقافة، وتنسب نفسها زورا وبهتانا إلى الثقافة الأصلية، ومع تقدم فنون «البرمجة البشرية»، التي تجعل الشخص يقوم بأبشع الجرائم وأكبر الأعمال وحشية دون إحساس أو تأنيب ضمير.. وتمكن خبراؤها من استقطاب شباب تشكلت منهم كتائب وجماعات متعددة الأشكال والأحجام.. ومن غير المستبعد أن تكون عناصر «القاعدة» وغيرها، قد خضعت لهذه «البرمجة»، وساعد على ذلك أنها تكونت خارج رحم بلدانها إلأصلية، ونمت وترعرعت في حواضن غربية، وذلك يَسْهل مع شباب الجيل الثاني والثالث والرابع من أبناء العرب والآسيويين المهاجرين، الذين ولدوا ونشأوا في الغرب، وتكونت منهم قوة ضاربة لتنفيذ مخطط الإبادة بخطاب جاذب وشعارات حماسية عن الجهاد وإعادة الخلافة، وفرض الدين بحد السيف على المخالفين من «الكفار» كما في أدبياتهم!. 
ومن الواضح أن ما حدث لشهداء مصر في ليبيا، لم يكن فقط لترويع الأهل والمواطنين، بل لتأكيد أن الجميع أصبحوا برسم الإبادة؛ في ظروف مواتية من الضعف والشرذمة والفوضى وفقدان الإرادة، والرهان على طلب العون من «رعاة الإبادة»، الدورية والممنهجة، وهم من أغرقوا المنطقة في بحور الصراعات والاقتتال الداخلي، حتى أنسوها أولوياتها وأفقدوها توازنها!!.
واستهدفت مذبحة العمال المصريين ضرب أكثر من عصفور بسكين (وليس بحجر) واحد؛ ووقوع الاختيار على مواطنين مسيحيين كان لإشعال فتنة طائفية، وجاء الرد أبلغ؛ متجاوزا التوقعات، وأكثر تحديا، فلم يتوحد المصريون منذ أكثر من أربعة عقود قدر توحدهم ضد مرتكبي المذبحة، ووجدوا لهم عمقا عربيا كان قد بدأ مع استشهاد الطيار الأردني معاذ الكساسبة، ولم أشهد في حياتي، كشخص مخضرم، حزنا بهذا الانتشار والحجم منذ نكسة 1967 وعقب سماع خبر رحيل عبد الناصر 1970؛ حينها اتشحت مصر كلها بالسواد وارتدى نساؤها الحداد.. ويتكرر المشهد مرة أخرى، وترتقي لغة الناس وتختفي المفردات الطائفية. 
تحدث الجميع عن الشهداء كمواطنين، دون الإشارة لدينهم، باستثناء الإعلام العربي العشائري. ووصفت صحف عبرية وأجهزة إعلام صهيونية شهداء مصر بـ»أقباط من الرعاية المصرية»، وبمناسبة هذا التوحد الوطني التاريخي أوجه مناشدة للبابا تاوضروس الثاني؛ المعروف بثقافته وسعة اطلاعه الديني والعلمي والتاريخي؛ أناشده بأن يُغلب وصف المصريين على اخوتنا المسيحيين، وينحي جانبا تعبير «الأقباط» كوصف تاريخي؛ ارتبط بالحقبة الإغريقية، وأن تنسب الكنيسة إخوتنا المسيحيين إلى مصر، وليس العكس، وبذلك يَسحب ورقة موظفة بخبث من القوى المعادية في الخارج، وطابورها الخامس في الداخل لبث الفرقة بين المصريين وفصم عرى العلاقة المتينة بينهم.
من المفترض أن مسيحيي مصر لا يختلفون عن باقي المسيحيين العرب؛ ليسوا غرباء أو وافدين؛ وهم المبشرون الأوائل برسالة السيد المسيح الناصري (ابن الناصرة)، والمولود في بيت لحم في فلسطين العربية، وقد أسسوا دولا وأقاموا حضارات في المنطقة العربية؛ غساسنة في شمال جزيرة العرب ومناذرة في جنوبها، وربطتهم معا علاقة الدين والدم والمصاهرة والتقاليد والثقافة، والمسيحية العربية تؤمن بما يمكن تسميته «العقيدة المتآخية» في أرض الرسالات ومهبط الوحي، وجاء الإسلام مؤكدا لذلك التآخي؛ فنص القرآن يقول:
«وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (آية 82 ـ 83 من سورة المائدة)».
وفي موضع آخر يقول: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (آية 125من سورة النحل)»، وساوى بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات السماوية السابقة بنص قرآني آخر هو: «اِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (آية 62 من سورة البقرة)».
ومنفذي مذبحة العمال المصريين لهم «دور وظيفي»؛ كالدور الوظيفي للكيان الصهيوني في الاستيطان والتوسع وطمس الهوية والثقافة والتراث والقيم، وهو ما أشار إليه المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري. 
وجاءت ضربة الطيران المصري الخاطفة لمقار تنظيم «الدولة»، ومراكز تدريبه وأماكن تجمعه ومخازن تسليحه؛ لترد للمصريين الإحساس مجددا بالكرامة، ولتزيد الثقة في جيشهم الوطني، الذي حافظ على قوته ووحدته، ووصفه بيان «المجلس الوطني المصري» بأنه «ما زال على عهده مرابطا ووفيا ومدافعا عن شرف الوطن وحاميا لكرامة مواطنيه»؛ وأضاف البيان أن الرد المباغت «بداية تضع على عاتق البلدين الشقيقين – مصر وليبيا – مسؤولية توحيد الجهود ورص الصفوف وإقامة جبهة تتصدى للإرهاب والهمجية؛ تبقى مفتوحة لباقي البلدان الشقيقة، وتكون قادرة على التصدي للمخططات المعادية، خاصة المخطط الصهيو أمريكي؛ لتقسيم وتفتيت المنطقة؛ إلى إمارات ومناطق وشراذم ومستوطنات.. صهيونية وطائفية وعرقية وانعزالية ومناطقية؛ تعزز من هدف قيام إسرائيل الكبرى، ومن تمكينها من الهيمنة على الشرق الأوسط الجديد أو الكبير»!
٭ كاتب من مصر يقيم في لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق