بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 فبراير 2015

◘ «عازف البيانو» لبولانسكي: يهود تعاونوا ونازيون تعاطفوا! - ابراهيم العريس

كان السؤال الأساس الذي طُرح يوم فاز فيلم «عازف البيانو» لرومان بولانسكي عام 2002 بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي هو التالي: هل يمكن تصوير فيلم عن موسيقي يهودي بولندي عاش أحداث الحرب العالمية الثانية ولامس المحرقة من دون ان يكون من ضحاياها، وفقد أهله من دون ان يعرف مصيرهم... هل يمكن تصوير هذا كله من دون ان يسفر الأمر عن فيلم غارق في الإيديولوجيا، يحاول كما فعل «لائحة شندلر» لستيفن سبيلبرغ، ان يعطي اسرائيل ما يمكن ان تبرر به ما فعلته لاحقاً ضد فلسطين والفلسطينيين؟ أجل... يمكن. هذا ما قاله رومان بولانسكي، في هذا الفيلم إنما دون ان يزعق بذلك. قاله مواربة. وهنا، بالتحديد، تكمن قوة هذا الفيلم، ثم الصمت الإعلامي الذي يكاد يكون مطبقاً من حوله رغم فوزه عامذاك.
> والحقيقة ان بولانسكي، اليهودي البولندي الذي عانى اهله من النازيين، كان يحلم منذ زمن في ان يعبر عن تلك المعاناة. لكنه كان ينتظر «نصاً ملائماً» كما كان يقول. ومن هنا حين قرأ، بعد نسيان طويل الكتاب الذي وضعه عازف البيانو البولندي فلاديسلاف شبيلمان، عما حدث له خلال الحرب العالمية الثانية، أدرك فوراً أنه عثر على موضوعه. فموضوع الكتاب، وعنوانه الأصلي «موت المدينة» هو الحياة الغريبة التي عاشها شبيلمان متخفياً وسط الأخطار خلال تلك السنوات المرعبة. لقد روى شبيلمان في الكتاب تجربته الخاصة، من دون ان يسعى الى إلباسها أي طابع ايديولوجي. روى مجابهته للحرب ببراءته. روى انه لم يكن بطلاً ولا شجاعاً. وروى خصوصاً كيف انه شاهد احداثاً كثيرة إما من فجوة في الجدار، وإما من نافذة غامضة من بناء خفي، وإما في مطبخ مستشفى دمره القصف. ثم روى كيف انقذه ضابط ألماني اكتشف وجوده ولم يأبه لكونه يهودياً طالما انه يعزف البيانو. وروى كيف قام ابناء دينه من اليهود المتعاونين مع الألمان بتسليم ألوف اليهود الى النازيين يفتكون بهم.
> روى شبيلمان هذا كله في كتابه، من دون تعليق، ومن دون ان يستخلص أي درس. وواضح ان هذا ما فتن بولانسكي ودفعه الى اختيار الكتاب موضوعاً للفيلم الذي كان يحلم به. وواضح ايضاً كم ان فيلماً من هذا النوع، وله هذا الخطاب، من شأنه ان يسبب احراجاً لإسرائيل والمتعاطفين معها. ترى أفلم يكن هذا احد اسباب ذلك الصمت والتأفف حتى، اللذين أحيط بهما فوز الفيلم بالسعفة الذهبية؟ وأليس الأدهى من هذا ان يكون الفيلم حرص على ان يؤكد لنا، في النهاية، ان بطل الفيلم، الموسيقي شبيلمان، مات في بولندا، من دون ان يبارحها، في العام 2000 عن عمر يناهز الثامنة والثمانين؟ وليس في اسرائيل كما كان «يجدر به» ان يفعل؟
> يبدأ الفيلم كما الكتاب، ببطله الشاب وهو يعزف في استديو الإذاعة البولندية، عام 1939، «ليلية» لشوبان. غير ان القصف الألماني اذ يبدأ معلناً، بصخب، بداية الحرب العالمية الثانية، يقطع عليه عزفه، ويضطره والآخرين الى الهروب نحو الملاجئ. بعد ذلك بست سنوات، حين ينهزم النازيون ويحرر السوفيات بولندا، يكون أول ما يفعله شبيلمان، في مجال العزف، ان يكمل عزف مقطوعة شوبان، من حيث كان توقف تماماً. طبعاً هذا الأمر قد يكون من قبيل المغالاة، لكنه يتخذ كل دلالته في هذا السياق. ومن أولى الدلالات بولندية شبيلمان ورهافة ذوقه الموسيقي، ثم اعتباره الحرب وما جرى له فيها، امراً عارضاً على خطورته ومآسيه، في سياق حياة كرّسها كلها للموسيقى. وما جرى بين عزف القسم الأول من «ليلية» شوبان، وعزف القسم الأخير، هو ما يرويه لنا العازف في كتابه الذي كان صدر للمرة الأولى في العام 1946 وإثر انقضاء الحرب، ثم منعته السلطات الشيوعية لأسباب قد يصعب فهمها، ليعود ويصدر في العام 1998، بعد ان يعثر ابن الموسيقي على نسخة من بين أوراق أبيه.
> وأحداث الكتاب هي، بالطبع، أحداث الفيلم، يرويها لنا بولانسكي، في شكل سينمائي يتسم بكلاسيكية تقترب من الملحمية، ولكن دائماً من وجهة نظر شبيلمان، فهذا الأخير لا يغيب عن الشاشة الا نادراً، انه حاضر في كل مشهد وأحياناً في كل لقطة: يراقب بحيادية تغيظ احياناً، وحين يتدخل، يتدخل على طريقة «مكره أخاك لا بطل». ان الأحداث تعبر به، تمسّه، تدمّره، تسحب منه اهله وعيشه الهادئ، تقتل اصدقاءه ورفاقه، تمنعه من الموسيقى، تحوّله من انسان الى شبح، تسرق منه حبه وحيّه. لكنها لا تسرق منه شيئين: انسانيته وحبه للموسيقى. وهذه الأخيرة هي التي تنقذه في واحدة من لحظات الفيلم، حين يعثر عليه ضابط ألماني، متخفيًا في قاعة. ينظر اليه ملياً ثم يسأله بهدوء وقد أدرك يهوديته من سماته: «ما هي مهنتك» فيجيبه، من دون خوف أو عداء: «أنا موسيقي». ولما كان في المكان آلة بيانو، يطلب منه ان يعزف. وتحدث المعجزة. فالضابط حساس تجاه الموسيقى. والموسيقى تبعث لديه انسانيته. فيعاون شبيلمان على البقاء ويحمل اليه بين الحين والآخر شيئاً ليأكله، بل يعطيه قبل الانسحاب الألماني معطفه العسكري يقيه البرد، ما يعرضه بعد التحرير الى خطر القتل على ايدي الجنود السوفيات الذين يعتقدونه ألمانياً.
> في تلك اللحظة كانت مغامرة شبيلمان جعلته أقرب الى الشبح منه الى الإنسان. وهو كان أمضى السنوات الأخيرة وحده عمليًا. يهرب من مكان الى آخر، همه البقاء، والبحث عن أكل ونوم. وهو في أثناء ذلك يراقب الأحداث، من دون ان تظهر ملامحه ما يشي بموقف ما. صحيح انه قبل ذلك كان ساعد في شكل أو آخر على اندلاع انتفاضة «غيتو» وارصو، ولكن من دون أي موقف سياسي مسبق. ولم يكن هذا جديداً عليه. اذ منذ البداية يبدو لنا واضحاً اندماجه في المجتمع واستغرابه، حتى حين يجد ان ثمة من الأماكن ما بات ممنوعاً على اليهود ارتياده اثر الغزو الألماني، غير ان ذلك الاستغراب لا يمنعه من ان يواصل حياته وكأن شيئاً لم يكن: لا يغضب من شيء. لا يتمرد على شيء. وحتى حين تساق عائلته الى المنفى (ومنه الى القتل على الأرجح) يصعب تلمس موقف، غير الحزن، يبدو عليه. انه باختصار، الإنسان البريء ازاء احداث العالم وشروره.
> واللافت ان بولانسكي، جرؤ هنا، ومن خلال كتاب شبيلمان وشخصيته، على ما لم يجرؤ عليه سينمائي من قبله: لم يحصر الشر في الألمان النازيين وحدهم، واضعاً الخير والطيبة في كفة اليهود، «الضحايا بامتياز»، فبين الألمان، وحتى النازيين منهم ولدى العسكر، اشرار ولكن هناك طيّبين، يمثلهم هنا طبعاً ذلك الضابط الذي ساعد شبيلمان. وهناك ايضاً يهود طيبون ضحايا، لكن هناك ايضاً يهوداً أشراراً تعاونوا مع النازيين. وهو أمر ندر ان اعترفت اسرائيل به. وهؤلاء يصورهم لنا بولانسكي بكل هدوء ووضوح. ولا يفوته ان ينبه اليه في تصريحاته الصحافية. وهناك، بعد ذلك، بولنديون طيبون وآخرون اشرار. ذلك بعض ما أراد بولانسكي ان يقوله في فيلمه هذا... وقاله. ولئن كان بولانسكي قد صوّر خلال الجزء الأول من فيلمه انتفاضة يهود غيتو وارصو على الوضع المزري الذي عيّشهم فيه النازيون، بعد ان جمعوهم في حي واحد وراحوا ينكلون بهم، فإنه صوّر، وأيضاً في شكل نادر، ثورة البولنديين انفسهم ومقاومتهم ضد النازيين.
> ولد بولانسكي العام 1937 في باريس لوالدين يهوديين بولنديين. وفي العام 1938، عاد به والداه الى بولندا. وهو امتهن التمثيل هناك وعمره 14 سنة ولعب أدواراً عدة في افلام بولندية منها ما هو من توقيع اندريه فايدا. وكان طالباً حين حقق أول أفلامه القصيرة، وقبل ان يلتحق بمعهد السينما البولندي. وفي العام 1962 ظهر أول فيلم روائي طويل له وهو «سكين في الماء» فنال على الفور جائزة النقاد في مهرجان البندقية، ورشح لأوسكار أفضل فيلم اجنبي. بعد ذلك هاجر، أولاً الى لندن ثم الى الولايات المتحدة حيث عاش سلسلة مآسٍ ونجاحات انتهت بمحاولة اعتقاله بتهم اخلاقية تلت مقتل زوجته شارون تيت. وهو منذ ذلك الحين يعيش في اوروبا حيث يضيف مرة كل عامين فيلمًا مميّزاً الى لائحة اعماله التي تشكل علامات في تاريخ السينما المعاصرة. منتمية الى بداوة وعولمة نادرتين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق