بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 14 فبراير 2015

◘ حبر وملح (صلَةُ قلب) - زاهي وهبي

الرعدة الخفية في البدن، اصطكاك المفاصل والركبتين، الانتظار الموحش المضني، الليل المتكاسلة كواكبه، الاستيقاظ على جمرة الشوق... وعلاماتٌ أخرى كثيرة تصيب العاشق وترديه صريع ما ينبض بين الضلوع، حتى لو كانت الخُلاصات العلمية الحديثة تشير إلى أن مَن يأخذ القرار أو يُطلق صفارة البداية هو العقل لا القلب.

ما عليه، وما همَّ أكان هذا أو ذاك، النتائج واحدة والعوارض إياها لا تتغير ولا تتبدل مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة، ومهما تباعدت الثقافات والعادات. تتغير الطقوس والشكليات وفسحات التلاقي، لكن الجوهر يبقى واحداً، الحب الحقيقي يُصدّع الأوردة ويخلخل العظام، وما من عاشق أسلمَ القلب إلا وتجرع الكأس الموجعة الشافية. ولأول الحب دوماً تلك الوخزات اللذيذة الناعمة التي تجعلنا على قلق كأن ريحاً صرصراً تعصف في الصدور. حين يَهَبُ الحبيب نفسه فإنه لا يعطيها على دفعات وبالتدرج، بل يسقط كلياً في الهاوية، ويطيب له السقوط، وكلما طال سقوطه انتشى أكثر وتفاقمت لذته حتى تغدو دُوَاراً يشبه حركة الكواكب أو رقصة الدراويش، كلما اشتد الإيقاع تسارعت الرقصة كأن لا بداية ولا نهاية، تماماً كحركة الكون السرمدي.
ليس الأمر شعراً ولا إنشاء، وإن كان الشعر الأقدر على ترجمة الحالة وتفسير الأوجاع المُستحَبة لمعشر العشاق وجماعة الذوبان في الآخر حتى التلاشي، ليس الأمر تنظيراً أو غلو شاعر عاشق لأن الحب جوهر الوجود وعلّة الحياة، أَوَنسينا أن جدنا الأول آدم ما كان ليقطف التفاحة المحرمة لولا حواء التي مذاك تدفعنا إلى الحافة، تضعنا على الشفير، ولولاها لما كنا هنا الآن على نجمة مثقلة بآثام بنيها لا سيما أولئك الذين أضافوا راءً قاتلة بين حاء الحب وبائه، فجعلوا الأرض ميدان حروب لا تهدأ ولا ترتاح. لكن مَن القائل إن الحرب تمنع الحب أو تحجبه أو تجعله يتراجع ويتلعثم، ويقف خائفاً مرتجفاً كفريسة سهلة المنال، باحثاً عن ملجأ أو ملاذ آمن. الحب يهجم بلا سابق إنذار، لا يستأذن ولا يطرق الباب، لا يطلب تأشيرة أو جواز مرور، ولعله يستطيب المجيء المزلزل حين لا نكون في انتظاره وعلى أهبة الاستعداد، لا يؤمن بالمواعيد المسبّقة المرتبة كجداول الدوام، ولعله في الحرب أكثر حضوراً وضرورة من أي وقت آخر.
في الأوقات الصعبة واللحظات الحرجة، تحت هدير الطائرات ودوي المدافع، حين يقترب الموت حتى يكاد يؤاخي الحياة، يتعاظم فعل الحب، تتكثف المشاعر والأحاسيس، تتضاعف الرجفات، يغدو خوفنا على مَن نحب أكبر، وشوقنا إليه أكثر، وتعلقنا به أعظم. احتمال الفقدان يجعلنا عرضة لنوع من قلق مضن لا يشفيه بوحٌ ولا كتمان، ويصير احتضان الحبيب بكل ما أوتينا من خشية وحنان فعل تمرد واحتجاج على خراب العالم وفساد الإنسان، والحبيب هنا لا يعود فقط الآخر المعشوق، بل كل مَن يمتّ إلينا بصلة قلب، تتسع دائرة العشق، يتسع الآخر حتى لا يعود فقط فرداً واحداً أحداً، يصير الحبيب وطناً نخشى عليه من الفناء والزوال، ونبذل لأجله كل ما استطعنا إليه حباً وسبيلاً.
عيدٌ للحب؟ وهو الذي يأنف الرسميات وربطات العنق ويحلو له العبث والجنون والتملص من الشكليات والواجبات اللازمة كأنها فرض مدرسي. العشاق الحقيقيون كائنات غير مروضة أو مدجنة، يسرحون في براري المشاعر، ويهيمون في أودية الحنان السحيقة، يتسلقون قمم الاشتياق الشاهقة، ويقيمون تحت سماء عارية إلا من أشواقهم ونداءات الوصال. لكن لا بأس في هذا الزمن الأغبر، حيث القتل والذبح والتوحش إلى أقصاه، والغرائز البدائية المنفلتة من كل عقال، وثمة مَن يُطاردُ الوردة الحمراء ويعتقل كيوبيد كي لا يطلق سهامه، لا بأس من يوم يحثّ على الحب مقابل تعاظم الكراهيات والضغائن والأحقاد والتشظيات التي تفرّق حتى بين الأخ وأخيه، شرط ألا يكون سلعة أخرى تُباع وتُشترى في سوبرماركت العولمة المتسع لمشارق الأرض ومغاربها.
جميلٌ أن تكون محبوباً، الأجمل أن تكون مُحبَّاً. حين تحب تضيء نفسك، وحين تضيء نفسك تكون قد ساهمت بإنارة ولو جزء بسيط من العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق