بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 فبراير 2015

◘ دم ... بنزين وقفص - عبده وازن

بدا المشهد كأنه طالع من ملاحم التاريخ عندما كانت تتصادم السفن في عمق البحار، وتتلاحم الجيوش بالسيوف والرماح، فتصطبغ المياه بالدماء، ويغدو الموج قاني الحمرة... كأنه مشهد من مشاهد المعارك البحرية التي خاضها البحارة الأقدمون، وسال فيها دم غزير جاعلاً الماء وردياللون أو بـ «لون النبيذ»، كما في ملحمة هوميروس «الأوذيسة». لم ينحر مجرمو «داعش» الضحايا المصريين على شاطئ البحر إلا ليلطّخوا الماء الأزرق بدمائهم، فيبدون أنهم فعلاً برابرة جدد وهمجيون ومرتزقة وقتلة قادمون من عصور ما قبل التاريخ. لم ينحروهم في الليل تحت ضوء القمرعلى التراب والحجارة، بل في وضح النهار وأمام كاميراتهم المجرمة، وعلى الشاطئ عند ارتطام الموج. إنهم مصاصو دماء وينقصهم أن يلِغوا الدم بألسنتهم، أشخاص يتلبّسهم دراكولا، يتلذذون بمرأى الأحمر القاني يغسل أيديهم وخناجرهم ويمتزج بماء البحر.
إنهم فرسان العصور الوسطى، الجلادون والسفاكون، يعدمون الأبرياء ولكن من دون مشانق، يحرقونهم حرقاً بلا حطب ولا جمر. لعلّهم أشد «رأفة» و»رحمة» من جنود محاكم التفتيش المسيحية في الأزمنة المظلمة. كان أولئك يحرقون المنبوذين، الذين يصفونهم بـ «المهرطقين»، حرقاً على المشانق، يرفعونهم فوق المواقد، ويضرمون النار فيها ليشووهم شيّا، مستمعين الى صراخهم، متلذّذين ومنتشين، متنسمين روائح لحمهم المحترق ببطء. أما هؤلاء «الداعشيون»، فابتدعوا طريقة أسهل لحرق أسراهم الذين هم بمثابة «غنائم»، معتمدين الكاز أو البنزين الذي يهبّ لهبه بسرعة، فيحرق الضحايا من دون طول «شواء»، فيسقطون للفور متخبّطين على الأرض بالنار والسخام الأسود والرماد.
لكنّ الاختراع الذي لم يسبقهم إليه قتلة التاريخ، هو وضع الأسرى في أقفاص وحرقهم داخلها. مشهد غاية في الوحشية. الأسرى هؤلاء ليسوا بشراً بنظرهم، إنهم بنظرهم «قرود»، يسجنونهم خلف القضبان ويجولون بهم على العامة في الأحياء، قبل أن يُنزلوا بهم عقابهم الشنيع. يستعرضونهم ويدعون الناس الى التفرّج عليهم، كما في أسواق النخاسة قديماً. إنهم العبيد وهم الأسياد. بل إنهم أقل من عبيد، فهم ليسوا معروضين للبيع، وليس أمامهم أمل بحياة أخرى لدى أسياد آخرين. ليسوا سلعاً للمتاجرة، بين باعة ومشترين. إنهم عبيد مُقدِمون على الاحترق أمام الجميع. ليسوا بشراً ولا من لحم ودم، لا أرواح لهم ولا عواطف ومشاعر... إنهم حيوانات بنظر «داعش». وهم كالخراف يساقون الى الحرق لا الى الذبح. يجب ألا يبقى منهم شيء. حتى ولا عظام.
كان قتلة العصور الوسطى ينفّذون حكم الحرق بعد قرار تصدره المحكمة الكنسية. كان قضاة المحكمة يواجهون المتّهمين، ويناقشونهم، ويسعون الى إقناعهم بـ «آثامهم» والعودة عنها والرجوع الى الحظيرة. وعندما يعجزون، يُصدرون أحكامهم بالحرق في الساحات العامة. هكذا أحرق إكليروس روما الفيلسوف الإيطالي الشهير جيوردانو برونو، أحد كبار مفكري القرن السادس عشر، معاقبين إياه على اعتناقه نظرية كوبرنيكوس حول دوران الأرض. حاولوا إقناعه بخطأ هذه النظرية، فرفض ولم يخشَ المحرقة. حكماء «داعش» لا يناقشون، ولا يجادلون، ولا يستمعون الى الأسرى. حكمهم مسبق ومبرم ولا تراجع عنه. الكافر كافر، ولا فرصة أمامه ليعود عن كفره. لقد وُلد كافراً برأيهم ولا مجال لردّه الى الطريق المستقيم. حكمهم ليس بشرياً، حكمهم قاطع مثل القدر.
كم كان أليماً مشهد نحر المصريين على الشاطئ. يُذبحون جماعياً مثل الأبقار في المسالخ الحديثة، لا ينظر أحد منهم الى عيني رفيقه... ثم تسيل الدماء وتمتزج.
كم كان قاسياً مشهد حرق الطيار الأردني الشاب، واقفاً في القفص، محنيّ الرأس، يداه مقيدتان وعيناه الدامعتان تنمّان عن صلاة يتلوها في قلبه... ثم تضرم النار فيحترق ويهوي أرضاً.كم كان شنيعاً مشهد الأسرى الأكراد يسوقهم جنود «داعش» مأسورين في الأقفاص على مرأى من الناس في الأحياء، قبل أن يُنزلوا بهم عقابهم حرقاً.
هذه ليست مخيّلة «داعش» بل حقيقته. وإن كانت هذه المشاهد تفوق الوصف من شدة وحشيتها، فهي ليست بنظر «داعش» سوى نزهة يجدر تصويرها بكاميرات شخصية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق