بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 4 فبراير 2015

◘ «علم ما وراء النفس» لفرويد: تنويعات على الحلم والحداد واللاشعور -ابراهيم العريس

في معرض تقديمه ترجمته كتاب فرويد «علم ما وراء النفس» ينقل جورج طرابيشي عن إرنست جونز، تلميذ رائد التحليل النفسي وكاتب سيرته لاحقاً، تفسيراً للسبب الذي جعل فرويد يستنكف عن نشر سبعة مقالات كان قد خطط لأن يستكمل بها نصوص هذا الكتاب لكنه لم يفعل. اذ يقول جونز: «اعتقد بأن تلك المقالات كانت تمثل، بالنسبة الى فرويد، نهاية مرحلة وخلاصة تختتم عمل حياته. وبالنظر الى انها حررت في وقت ما كان يلوح فيه بعد، في الأفق، أي بشير بالمرحلة الثالثة الكبرى في حياته، وهي المرحلة التي ستبدأ عام 1919، أرجح الظن أنه نحّاها جانباً في انتظار نهاية الحرب. ولكن لما تبرعمت في عقله لاحقاً أفكار ثورية أخرى، أفكار جديدة حملته ولا بد من اعادة النظر جذرياً في أفكاره القديمة، قرّ قراره على اتلافها».
> وهكذا، اذاً، بعدما كان مشروع «علم ما وراء النفس» يتألف أصلاً من اثني عشر مبحثاً، تحول في نهاية الأمر ليضم خمسة مقالات كان أول اعلان لفرويد عن انجازها في رسالة بعث بها الى كارل ابرهام في ربيع عام 1915 يتحدث فيها عن هذه المقالات مفصلاً انها على التوالي «الدوافع الغريزية ومصائر الدوافع الغريزية»، «الكبت»، «اللاشعور»، «تكملة ميتاسيكولوجية لنظرية الحلم» وأخيراً «الحداد والسويداء». واللافت هنا ان فرويد أنجز، بالفعل، بعد ذلك بثلاثة أشهر كتابة المقالات السبعة المتبقية، لكنه حين نشر «علم ما وراء النفس» لم ينشرها... كما انه لم يُعثَر أبداً على أي مخطوط لها... مع ان الفرويديين يعرفون عناوين - ومواضيع - خمسة منها على الأقل وهي «الوعي»، «الحصر»، «الهستيريا التحولية»، «العصاب الوسواس» و «أعصبة التحويل في شكل عام». ومهما يكن، من المعتقد بصورة عامة ان فرويد ضمّن كل هذه المواضيع الأخيرة، في محاضرات وكتابات لاحقة له. المهم في هذا كله ان ثمة، بالفعل، في المكتبة الفرويدية خمس دراسات شديدة الأهمية تشكل في مجموعها متن «علم ما وراء النفس»... كان فرويد قد نشرها قبل ذلك متفرقة في «المدونة العالمية للتحليل النفسي» بين عامي 1913 و 1917.
> من الواضح، بعد هذا كله، أن هذه الدراسات انما تأتي لتستكمل وتطور، في شكل أو آخر، الموضوعات الكبرى التي كان سبق لفرويد ان عالجها في السابق ضمن اطار اشتغاله على «المفاهيم الأساسية لنظرية التحليل النفسي». ومن هنا فإن الباحثين المفسرين يرون ان هذه الدراسات تمكنت، في الكثير من المجالات، من أن توصل الى الاستنتاجات النهائية المتعلقة باكتشافات فرويد، معبّرة عن أقصى ما وصلت اليه أفكاره في تلك المجالات، حيث ان فرويد يتجاوز هنا، ومن بعيد، حقل المعالجة العيادية الذي كان قد حصر فيه نفسه وفكره من قبل، موسعاً من دائرة الاستنتاجات التي كانت تنقيباته أوصلته اليها في مجال علم نفس الحياة العادية، واصلاً حتى الى حدود تتجاوز ما كانت تتيحه له امكانات العلم في ذلك الحين. ومن هنا استخدامه لـ «علم ما وراء النفس» عنواناً للمجموعة حين أصدرها. وهذا ما يجعل لهذا الكتاب أهمية فائقة بالنظر الى انه يتميز عن أعمال فرويد جميعاً من ناحية انفتاحه على المستقبل مبشراً بعلم نفس جديد، أكثر عمقاً وأكثر رحابة من ذاك الذي كانت تصوراته قد بنيت حتى ذلك الحين.
> والحال اننا لا يمكن أن ندرك أهمية مباحث هذا الكتاب، الا انطلاقاً من هذا الواقع المستقبلي. فمثلاً في المبحث الأول، وهو يتناول الدوافع الغريزية ومصائرها، يتناول فرويد عن كثب مفهوم اللاوعي مميزاً اياه عن «مفهوم ما قبل الوعي» في سياق يدرس فيه الدوافع ومصائرها عبر العودة الى نقطة الانطلاق الأساسية في دراسة الحياة النفسية، راسماً، خطوة خطوة، التحولات التي تطاول تلك الحياة بفعل الرقابة الفاعلة، ماراً في طريقه على مسائل مثل التنبيه والفعل المعاكس والضغط والاستمرار والكف والتصعيد، حريصاً في كل لحظة على التمييز بين مجموعتين من الدوافع الأصلية: دوافع الأنا (أو المحافظة على الذات) ومجموعة الدوافع الجنسية. وفي المبحث الثاني الذي يتناول مسألة «الكبت» يصر الكاتب على التعبير الواضح عن هشاشة هذه الأوالية... أما في المبحث التالي «اللاشعور» (أو اللاوعي)، فإنه يستأنف دراسته لهذا المفهوم الصعب، حيث يحدد العلاقات بين منظومتين هما «اللاشعور» و «ما - قبل الشعور»... منطلقاً من سؤال أساس بالنسبة اليه: كيف السبيل الى معرفة اللاشعور؟ قائلاً: «طبيعي اننا لا نعرفه الا واعياً، بعد نقله الى الشعور أو ترجمته اليه. ويتيح لنا العمل التحليلي النفسي ان نختبر يومياً وتجريبياً امكانية ترجمة كهذه. ويقتضي ذلك أن يتغلب التحليل على بعض ضروب المقاومة التي كانت، في حينه، قد حولت تمثّلاً كذاك الى مكبوت من طريق اقصائه عن الشعور». ويرى فرويد هنا ان فرضية اللاشعور، ضرورية ومشروعة مؤكداً ان في حوزته أدلة كثيرة على وجود اللاشعور... وما بقية هذا النص، الطويل نسبياً ضمن اطار هذه المجموعة، سوى شرح وعرض لهذه الأدلة، ما يقود فرويد من تبرير «اللاشعور» الى الحديث عن تعدد مدلولات مصطلح اللاشعور، وصولاً الى ما يسميه «المشاعر اللاواعية» ثم «موقعية الكبت وديناميته» في «المميزات الخاصة للنسق اللاشعوري». خاتماً هنا بالحديث عن مسألة «التعرف إلى اللاشعور». ومن المنطقي أن هذا المبحث سيقود كاتبنا الى المسألة التالية التي كان لا بد أيضاً من الاشتغال عليها هنا استكمالاً عبر تكملة لـ «ميتاسيكولوجية لنظرية الحلم»، يشتغل فيها، ولو عبر صفحات قليلة، على اعادة النظر في بعض فصول كتابه الأشهر «علم الأحلام» (المعروف باسمه الشعبي «تفسير الأحلام»)... هنا، ومن دون أن يحدث تغييراً جذرياً في المفاهيم والاستنتاجات الأساسية التي كان توصل اليها في ذلك الكتاب، يوضح لنا فرويد اننا حتى نتمكن من المضي قدماً في تفسير بل تكوين الحلم، لا بد لنا من تذليل بعض الاشكالات (التي لم تكن واضحة في الماضي). فلا شك في أن «نرجسية حالة النوم تعني انسحاب تركيز جميع تمثلات الموضوع، سواء منها الأجزاء اللاواعية، أو الأجزاء ما قبل الواعية»، حيث ان الحلم، كما يراه فرويد، «يتراجع بالفرد حتى ايصاله الى مستوى الارضاء الهلوسي لرغباته»، خصوصاً أن عتبات أو آلية الرقابة، تكون هنا شديدة الانخفاض، بحيث ان التأثر اللاشعوري يعثر بسرعة على وسيلة التعبير عن ذاته عبر استخدامه مادة توفرها له بقايا الممارسات والأفكار النهارية الما-قبل شعورية. واذ يتوصل فرويد الى هذا، في مجال ربطه - عبر سيرورة الحلم - بين اللاشعور وما قبل الشعور، يصل الى المبحث الأخير في الكتاب حيث يقول: «بعد ان استخدما الحلم نموذجاً سوياً للإضطرابات النفسية النرجسية، سنحاول الآن أن نسلط الضوء على ماهية السويداء من خلال مقارنتها بالوجدان السوي في لحظات حداده» وهو ما يفعله في هذه الصفحات حيث يبرهن ان للسويداء دائماً ثلاثة شروط مقترحة هي: خسارة الموضوع، التعارض الوجداني، ونكوص الليبيدو في الأنا.
> مهما يكن فإن من الأهمية بمكان أن نلاحظ كيف ان فرويد يختتم هذا المبحث، كما يختتم الكتاب كله، بقوله: «لقد بتنا نعلم علم اليقين ان ترابط المشكلات النفسية وتداخلها يرغماننا على أن نترك كل مبحث من مباحثنا غير مكتمل الختام، الى ان يتاح لنتائج مبحث آخر أن تأتي لمعاضدته ومؤازرته»... ما يعني ان سيغموند فرويد (1856 - 1939) قد ترك هنا باب الاجتهاد مفتوحاً، ما يشكل جديداً لديه في تلك المرحلة المتقدمة من مساره الفكري. والحال ان الاستجابة كانت دائماً كبيرة خلال الأزمنة التالية، اذ نعرف أن جزءاً كبيراً من أعمال تلامذته وتلامذة تلامذته، حتى أيامنا هذه، انما كان اجتهاداً على تلك النصوص المؤسسة التي ضمها هذا الكتاب «غير المكتمل» لكنه مع هذا قد يكفي في حد ذاته للاسهام على نحو بالغ العمق والجدة في «بناء مذهب تحليلي نفسي متكامل» كما يقول مترجم الكتاب الى العربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق