بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 15 فبراير 2015

الأقليات وخيارات المصير - حسين درويش العادلي

الأمة السياسية
الدولة أمة سياسية، هي خليط عرقي ديني مذهبي إثني، لكنها أمّة أفراد وليست أمة مجموعات، فكل فرد وحدة سياسية تامة بغض النظر عن قوميته وديانته ومذهبه واثنيته، توحد الدولة هؤلاء الأفراد كمواطنين ضمن كتلة سياسية سيادية، فالدولة في جوهرها جمهور سياسي ينتظم بعقد ويتسير بقانون ويتأطر بمؤسسات ضمن إقليم سيادي معترف به.
ولادة قهرية
قليل من الدول تطورت أمتها السياسية بفعل سيرورات تاريخية ذاتية، والكثير الكثير منها أنتجته الحروب ومعاهدات تقاسم الغنائم بين المنتصرين عسكريا. إنَّ ولادة الدولة الحالية (كأمة سياسية) هي ولادة قهرية وتأسيسها كان إجبارياً، ولم تكن دول الشرق الأوسط استثناء، فولادة العديد من الدول تمت بشكل قسري على يد هذا المستعمر أو ذاك. صحيح أن العديد من الدول هي وارثة أو هي امتداد لتاريخها السياسي الحضاري، فالمستعمر لم يوجد شيئاً من الفراغ. هذا صحيح، هناك أمم إنسانية لكنها كانت ضمن إطار سياسي سيادي إمبراطوري جاءت الحروب وجاءت الهزائم لتقسّم تركته، وهذا هو الجديد، فشكل الدولة الحالي المتأطر بكيان سياسي سيادي محدد هو الجديد، فبإرادة الغالب العسكري تجزأت الامبراطوريات، ووجدت بعض الأمم نفسها مشتتـة في أكثر من إقليم سيادي جديد، فبدأ فجر الدولة الحديثة.
فجر الدولة
مع ولادة الدولة الإقليمية - عقب تقسيم الإمبراطوريات - ولدت معها أمتها السياسية، وأمتها السياسية هنا خليط من أمم عرقية دينية مذهبية إثنية أطرته الدولة (كأمة سياسية) واعترفت بها المحافل الدولية، فأصبحت الدولة الإقليمية حقيقة قائمة. وابتدأ مخاض السيرورة، سيرورة أمة الدولة، فقد تم إيجاد الدولة ولم تكن أمتها السياسية قد تنامت ونضجت وتماهت كصيرورة. لقد أوجدوا الدولة ولم يوجدوا الأمة السياسية.
مَن الذي ينمي ويفعل ويوحد ويطور الأمة السياسية؟ هي الدولة طبعاً. إنَّ الأمة السياسية والدولة وجهان لعملة واحدة، فالدولة كفلسفة وأنظمة وقوانين وسياسات وحقوق وحريات واقتصاد.. هي المنتجة للأمة السياسية، والأمة السياسية هي جوهر الدولة. هذا يعني أنَّ نجاح مشروع الدولة هو نجاح إنتاج أمتها السياسية، فالأمة السياسية المتنوعة بالانتماء الفرعي تتوحد في الولاء لكيانها السياسي السيادي (الدولة)، والعكس صحيح، فإذا ما فشل مشروع الدولة فستبقي جمهورها متشيئاً الى أمم ومنقسما الى جماعات ومتشظيا الى فرق.
انهيار أمة الدولة
قتلت أمة الدولة عندما تمت تنحية المشروع الوطني للدولة المستند الى المواطنة والمدنية والديمقراطية والتعايش والتحديث، فالدولة التي سادت في الشرق الأوسط هي الدولة القومية أو المذهبيـة أو الإثنية المستبدة المميزة التقليدية، أي الدولة ذات الفلسفة والآيديولوجيـا والثقافـة والمصلـحة المعتمدة على أوحـدية وواحـدية العـرق أو الطائـفـة أو الإثنيـة فـي امتلاك الــدولـة واحتكارهـا وتسييرهــا، فحــال ذلـك دون اندمـاج أمم الدولة بأمة الدولـة الجديـدة، وبقيت الدولة شكلاً قسرياً توحد بالقوة أمـم الدولـة المتنـوعة عرقـاً وديناً وطائفـة وإثنـية. 
غدت الدولة ملك الأكثريات أو حتى ملك الأقليات التي صبغتها بصبغتها ووجهتها صوب مصالحها، فتعاظم الشعور بالحيف وتنامى التمييز بين المواطنين، فانهارت وحدة أمة الدولة.
إشكالية
إحدى أهم نتائج فشل مشروع الدولة الوطنية المدنية العادلة تتمثل ببروز اشكالية وجدلية دور الأقليات في أنظمة الدولة وكياناتها السيادية. وأرى أنَّ بروز هذه القضية كإشكالية هي أهم نتائج احتكار مشروع الدولة وتسيد أنظمة التمييز والاستبداد في إدارة نموذج الدولة الشرق أوسطية.
تجاهل مميت
تجاهل مميت ذاك الذي مارسته المدارس السياسية الحاكمة تجاه قضية (الأقليات) في منطقة الشرق الأوسط عندما لم تشرع بتأسيس منظومة سياسية وطنية قادرة على فهم تطلع وخصوصية الأقليات وحقهم الثابت بالمواطنة المتكافئة المترجمة بالعضوية التامة والمشاركة الكاملة بشؤون الدولة. كما أنه إلغاء قاتل ارتد على مشروع الدولة عندما مارست بعض المدارس السياسية التمييز والاقصاء على أساس عرقي أو مذهبي أو إثني بحق (الأقليات) ودورها وحقوقها السياسية والمدنية في وطن يُفترض أنه وطن الجميع.
إعادة تشكيل الدول
مع تنامي الاضطرابات البنيوية في الشرق الأوسط فإنَّ هناك إعادة تشكيل للأمم السياسية (الدول) في المنطقة وسيكون لـلأقليات الدينية والمذهبية والعرقية والإثنية الدور البارز في تفكيك وإعادة إنتاج الأمم السياسية في المنطقة، وموت وولادة الدول هو عنوان لإعادة تشكيل أمم الدولة ودول الأمم.
خطيئة الدولة القومية الطائفية
تتحمل المدرسة القومية الطائفية – في الشرق الأوسط – الوزر الأكبر في تعطيل مبدأ المواطنة وما قاد من تصدع لأمم الدول، فنموذج الدولة القومية الطائفية التي سادت في منطقتنا – على حساب نموذج الدولة الوطنية المدنية – هشم الأمة السياسية للدولة وحال دون خلق المشترك الوطني والهوية الوطنية المعبرة عن جميع مواطني
الدولة. 
لقد أدى احتكار الدولة قومياً وتمذهبها طائفياً والحرمان من الحقوق والمشاركة السياسية إلى تنامي الشعور بالغبن والدونية لدى القوميات والمذاهب الأخرى في هذه الدولة أو تلك، فعزز لديها الشعور بالاستعباد والاستبعاد، فحال دون اندماجها الحقيقي في الدولة، فقادها ذلك الى الانكفاء على الذات فتضخمت هويتها وتعاظمت تطلعاتها بكيانية مستقلة تمثل ذاتها وهويتها ومصالحها.
تاريخ منطقتنا يشهد، كيف أنَّ مد حركات التحرر من الاستعمار كان مداً متنوعاً شاركت فيه جميع القوميات كما تماهت فيه في جميع الأديان والطوائف والإثنيات،.. ولكن، ومع الاستقلال والتأسيس الحديث لمشروع الدولة انهار هذا التماهي، فقد تم تأسيس كيانات سياسية ذات بعد عرقي مذهبي آيديولوجي محدد على حساب باقي الأعراق والمذاهب والآيديولوجيات الأخرى، فبرزت اشكالية الأكثريات والأقليات، وبرزت معها ظواهر الاستبعاد والاقصاء والغبن والدونية، فبقي مجتمع الدولة يعاني الانقسام الذي يحول دون الاندمـاج السياسي اللازم لوحـدة الدولة.
الأقليات وحسم الموقف

لم يعد نموذج الدولة المحتكرة على أساس من الأكثرية أو الأقلية العرقية أو الطائفية أو الإثنية بقادر على الصمود، إنه عصر انهـيار الدولة التقليدية التي احتكرت الهويـة والسلطة والثروة فقادها ذلك الى التميـيز والطغيـان والتحكـم القهـري الذي يخفي الانقسام المجتمعي على اساس الهويات الفرعية العرقطائفية الإثنية.
شكل الدولة المقبل ستحدده شعوبها، أممها، وسيكون للأقليات الدور الحاسم في صناعة خارطة الأمم مستقبلا، وعلى أساس من موقفها ستتقرر خارطة الدول الشرق أوسطية. 
و(الأقليات) بدورها أمام خيارات مصير: إمَّا أن تكـون جزءاً مــن نظام الفوضى الحالـي فتدخل – دون رؤية وخيار – فـي جدليات واشكاليات لعبـة الرفض والتضاد المتبادل وتنخرط فـي العنف واللااستقرار السائد ضمن نمـوذج دولة اللادولـة، أو أن تعيـد إنتاج نفسها ودورها وتطلعاتها من خلال الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الموحدة بالإشتراك المتكافئ والفعّال مع باقي شركائها فـي الأوطـان، أو أن تذهب بعيداً لتأسيس كيـانـاتـها السياسيــة المستقلة.عندها سنشهد نموذج شرق أوسط جديد لا يمكن التكهن بطبيعته 
ومآلاته.
كاتب عراقي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق