بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 8 يناير 2014

تحالف السلفية السعودية والمشيخة الازهرية د. سعيد الشهابي

مع ان الصراع على الازهر ليس جديدا، ولكنه يحظى باهتمام خاص هذه الايام في ضوء ما يجري في مصر منذ الانقلاب العسكري ضد حكم االاخوان المسلمين المنتخب شعبيا. هذا الصراع يتخذ اشكالا عدة. فهو يتخذ شكل التظاهرات المتكررة من قبل الجيل الازهري الشاب المتمرد ضد حكم العسكر والمتألم لما آلت اليه
ثورة مصر وكيف نجحت قوى الثورة المضادة في إنهاء اكبر ثورة عربية في التاريخ المعاصر. هذه التظاهرات تتواصل برغم الاعتقالات الواسعة في صفوف شباب الازهر احتجاجا ضد سياسات مشيخة الازهر التي يعتقدون انها اصبحت واحدا من مكونات الثورة المضادة. ثانيها: انها تعبر عن نفسها في محاولات التأثير على سياسات الازهر من قبل القوى التي لديها مشروع سياسي مضاد للتغيير الثوري يهدف لتكريس السلطة بايدي العسكر بدلا من صعود تيارات شعبية منتخبة. ثالثها: يتواصل الصراع في اروقة الازهر بين الجيل الشاب الذي رأى كيف ضربت ثورته وصودر قراره والادارات المتعددة التي يسيطر عليها السلفيون والتي تحمل تعاطفا خاصا مع القوى الخارجية التي تمولها وترعاها. 
هذه الصورة المتعددة للصراع على الازهر تعكس ازمة كامنة في الاجواء الازهرية من شأنها ان تؤثر على مستقبل الدور الديني والسياسي لهذه المؤسسة التي أسسها الفاطميون منذ اكثر من الف عام. ولن يتوقف الصراع حتى لو هزمت قوى الثورة المضادة، لان المؤسسة الدينية ضرورة لشرعنة الموقف السياسي للقوى الحاكمة. وبرغم ما يقال عن مبدأ فصل الدين عن الدولة فان التلاحم بين الجانبين لا يمكن انكاره، حتى في الغرب الذي ادت ثقافة الحداثة لديه للاعلان عن فصل الكنيسة عن الشأن السياسي. فما تزال الكنيسة مؤثرة في الحياة العامة وقادرة على التأثير على الرأي العام، وما يزال زعماء الغرب يسعون لكسب ود البابا وزعماء الطبقات الكنسية.
بقي الأزهر محوريا في حياة الشعب المصري نظرا لدور الدين في الحياة العامة. وسعت الحكومات السابقة لابقاء المؤسسة الدينية تحت هيمنة السياسيين لتوفير الشرعية الدينية التي يحتاجونها. وفي عهد الرئيسين السادات ومبارك بقي الازهر اسيرا لسياساتهما ولم يكن لشيخه موقف سياسي مستقل. بل ان أحد رموز الازهر التقى مع شمعون بيريز قبل بضع سنوات، في ذروة محاولات التطبيع مع الكيان الاسرائيلي. هذا برغم ان هذه المؤسسة العريقة لعبت دورا في التصدي للغزو الاجنبي كالحملات الصليبية والحملة الفرنسية والاستعمار البريطاني. واحتضن الازهر رجالا عظماء حملوا هموم الامة وسعوا لتوحيدها، وسعوا لابعادها عن الانشغال بالقضايا الهامشية والتركيز على كل ما يصنع الامة المتماسكة التي لا تشتت كلمتها التباينات الفقهية. فرجال مثل الشيخ محمود شلتوت وعبد الحليم محمود كان لهم دور في توسيع دائرة الفتيا لتشمل كافة مذاهب المسلمين، ومنع تصدع كيان الامة. وكان لموقف الازهر دور في لملمة الشمل في خمسينات القرن الماضي واقامة حاجز عظيم ضد محاولات التمزيق والتفريق. ولم تطرأ تطورات خطيرة على تركيبته الادارية الا في العشرين عاما الاخيرة عندما استطاع السلفيون التغلغل في اوساطه واعادة توجيه النمط الثقافي الذي يقدم لطلابه. وحتى شيخ الازهر الحالي بدأ دوره بشكل مستقل، وسعى لوقف نفوذ التيارات السلفية والتكفيرية بشكل فاعل. وعندما تعرض بعض مساجد الصوفية واضرحة الاولياء للاعتداءات في الشهور الستة التي اعقبت انتصار ثورة 25 يناير، كان لشيخ الازهر الحالي، الدكتور محمد الطيب، ذو النزعة الصوفية، دوره في احتواء الموقف ومحاولة توعية الجماهير بالموقف الشرعي المنطقي. ففي شهر حزيران/يونيو 2011 حث طلاب العلوم الدينية بالازهر على النزول للاندية والمقاهي لشرح الدور الايجابي لاضرحة الاولياء ودورهم في الحفاظ على الثقافة الاسلامية. كان واضحا لديه ان استهداف تلك الاماكن سيكون محاولة ضغط عليه للقبول بالتفاوض مع قوى الثورة المضادة، وان تلك القوى ستواصل استهداف المساجد والاضرحة بدعوى انها تجسيد للشرك، كما يحدث في العديد من الدول الاخرى. ففي مالي تم استهداف عشرات المساجد التاريخية ذات القيمة الدينية المرموقة. وكذلك حدث وما يزال يحدث في ليبيا ومصر وسوريا والعراق.
كان الانتصار الجزئي لثورة مصر العظيمة، زلزالا سياسيا كبيرا أقض مضاجع قوى الثورة المضادة واعداء التغيير. كان واضحا ان استمرار ثورة مصر ستكون له تداعيات كبيرة على انظمة الاستبداد التي جثمت على صدور العرب عقودا، واستمرارها يعني حتمية التغيير الذي طالما انفقت اموال النفط الهائلة لمنع حدوثه. تحركت تلك القوى على كافة الصعدان: السياسية والاقتصادية والدينية. وفيما تواصلت الاتصالات والتخطيط مع جنرالات الجيش بعد استيعاب الضربة الاولى التي ادت لسقوط حسني مبارك، بدأت الاتصالات مع الأزهر بعد بضعة شهور من الثورة. كان الهدف كسب الازهر الى جانب القوى التي كانت تخطط للانقلاب ضد الثورة ومنجزاتها والحفاظ على اعمدة النظام السابق. فليس خافيا وجود اختلافات في المباني الفقهية بين مدرسته والمدرسة الفقهيةالسعودية ذات المنحى السلفي. ويحسب شيخ الازهر، الدكتور محمد الطيب، على التيار الصوفي الذي لا يقبله السلفيون. وما ان حدث الاعتداء من قبل المجموعات السلفية على المساجد والاضرحة الصوفية، وبان غضب شيخ الازهر، حتى بادرت الدبلوماسية السعودية للسيطرة على الوضع، تأسيسا لمشروع الانقضاض على الثورة المصرية لاحقا.
وترتبط بداية النفوذ السعودي على الازهر بالزيارة التي قام بها وزير الاوقاف السعودي، الدكتور صالح آل الشيخ، في تشرين الاول/اكتوبر 2011 للازهر ولقائه بالدكتور الطيب. وقد اطلق الوزير السعودي تصريحا غير مسبوق وغير متوقع، فقال: انّ العلماء في المملكة العربية السعودية ينظرون إلى الأزهر على أنّه القلعة الإسلاميّة الشامخة والمرجعية الإسلامية لأهل السنة والجماعة. هذا التسليم بالقيادة للازهر يعتبر ‘تنازلا’ سعوديا لضمان نتائج أكبر، اهمها كسبه في المعركة السياسية المقبلة. وبرغم فطنة شيخ الازهر الا انه استدرج تدريجيا نحو المشروع السعودي الذي كان قيد التحضير. فالمعروف ان المؤسسات الفقهية السعودية عمدت منذ السبعينات لانتهاج سياسة مد النفوذ الى كافة الدول الاسلامية مستفيدة من اموال النفط التي تكدست بعد الطفرة النفطية في منتصف السبعينات. ولم تشعر تلك المؤسسات يوما بالحاجة لمراجعة الازهر في ما تقوم به، بل اعتقدت انها المرجعية الدينية للعالم الاسلامي السني، فهي التي تطبع الكتب الدينية وتوزعها، وهي التي تحتضن منظمة المؤتمر الاسلامي التي اسستها لمواجهة مشروع الجامعة العربية التي تصدرتها مصر، وهي التي تحدد مواقيت رؤية الهلال في بداية شهر رمضان ونهايته وتحدد مواقيت الحج بناء على رؤية الهلال. كان الازهر مهمشا منذ عقود، فيما كان النفوذ الديني المدعوم من السعودية يزداد اتساعا. ولذلك اصيب بالدهشة من استمع تصريحات الوزير السعودي في لقائهما الاول بعد الثورة، وهو يقول: ‘أنّ العلماء في المملكة العربية السعودية ينظرون إلى الأزهر على أنه القلعة الإسلاميّة الشامخة، والمرجعية الإسلاميّة لأهل السنّة والجماعة.’
ما الجديد في الامر؟ نظام الحكم السعودي قام على قاعدة دينية أسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب قبل 300 عام، ورفضت ان يكون لها منافس في العالم الاسلامي. ومنذ الثورة الاسلامية في ايران استفادت السعودية من هذا النفوذ الذي حققته منذ عقود، ولم ينافسها احد في ذلك خصوصا بعد التقارب السعودي المصري بعد رحيل جمال عبد الناصر. ولكن ثورة مصر غيرت الموازين، وأشعرت حكام السعودية ان التغيير قد اقترب من حدودهم. فمصر ليست ايران التي سعت لعزلها عن العالم العربي مستغلة مذهبها الديني (الشيعي) وانتماءها العرقي (الفارسي). واذا كانت قد استطاعت التفاهم مع السادات ومبارك، فان الامر لن يكون كذلك بعد حدوث الثورة. وكان واضحا ان جماعة الاخوان المسلمين هي الاكثر تنظيما والاوسع انتشارا والاوفر حظا بالفوز في اية انتخابات مقبلة. فهي التي بقيت مطاردة حتى سقوط نظام مبارك، بل ان من بين التهم التي وجهت مؤخرا للرئيس المنتخبن محمد مرسي، هروبه من السجن ايام الثورة. ولذلك تعتبر زيارة الوفد السعودي برئاسة وزير الاوقاف نقطة تحول في الاستراتيجية السعودية لاسقاط الثورة. كان ذلك بداية التحالف الديني بين الازهر والمؤسسة الدينية السعودية، برغم الاختلاف بين شيخ الازهر الصوفي، والمؤسسة الدينية السعودية القائمة وفق تعليمات الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فقد تبعتها زيارات عديدة بين الطرفين، لتنسيق المواقف والاتفاق على خطط عمل مشتركة لمواجهة الظاهرة الاخوانية التي يعتبرها الطرفان، تهديدا لشرعيتهما. فحين ينتخب الاخوان، فانهم يكسبون الشرعية الشعبية التي تضاف لشرعيتهم الدينية، كونهم أقدم حركة اسلامية سياسية أسسها رجل أزهري واستشهد بسبب اطروحاته.
في 21 كانون الثاني/يناير الماضي قام شيخ الا زهر بزيارة السعودية على رأس وفد كبير يضم أعضاء هيئة كبار العلماء بمصر واستقبلهم في مطار الملك خالد الدولي وزير الاوقاف والشؤون الاسلامية والدعوة والإرشاد، الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ.
ولم يكشف الكثير عن تفصيلات تلك الزيارة. وبعد ثلاثة شهور فقط تكررت زيارة شيخ الازهر للسعودية. ففي 20 نيسان/ابريل الماضي (اي قبل ستة اسابيع من الانقلاب العسكري ضد الاخوان) دعا المفتي العام للمملكة رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، الازهر الشريف للقيام بدوره الفعال في جمع كلمة الأمة، منوها بـ ‘ضرورة الحذر من أناس سعوا لإقصاء الأمة عن دينها’، واصفا إياهم بـ ‘الذين يريدون أن يفرضوا على الأمة واقعاً مريراً بعيداً عن المنهج الصحيح ليجعلوه أمراً واقعياً’. جاء ذلك خلال حفل الغداء الذي أقامه الوزير السعودي تكريماً لشيخ الازهر والوفد المرافق الذي كان في زيارة رسمية اخرى للسعودية.
وأضاف مفتي عام المملكة: ‘إن امتنا اليوم بأمس الحاجة إلى علمائها، فعلماء الأمة كل ما توحدت كلمتهم. وتوحد اتجاههم وعرفوا الواقع الأليم الذي يحيط بالأمة سعوا لتخليصها بكل اجتهادات، فلا يغترون بأية دعايات مضللة من أناس يدعون الإصلاح ويتظاهرون بالإسلام ولكن عقائدهم، وآراءهم التي ينشرونها هي بعيده كل البعد عن الكتاب والسنة، هؤلاء يجب أن نكون على حذر منهم’. بدوره، أكد شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب على أهمية وحدة الصف الإسلامي، مشيراً إلى ما آلت إليه أحوال العالم العربي والإسلامي في العقود الأخيرة من ضعف وتراجع من بعض أبنائه ومن خصومه على السواء، وما أدى إليه كذلك من تفكك واختلاف، مستعرضاً في الوقت نفسه رسالة الأزهر، ومقصده تجاه توحيد كلمة المسلمين، وتحقيق تضامنهم اعتماداً على الكتاب والسنة النبوية. وقال شيخ الأزهر: ‘إن أهل السنة والجماعة هم جمهور الأمة الإسلامية المتمسكون بهدي الكتاب والسنة المعظمون لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المهتدون بالأئمة الذين تلقتهم الأمة بالقبول من علماء الصحابة، والتابعين، والقرون الخيرة’، مشدداً على ضرورة أن يعمل قادة الفكر وعلماء الأمة على جمع المسلمين كافة وبخاصة أهل السنة والجماعة على كلمة واحدة.
هل هذا يعني ان الازهر تحالف مع المدرسة الدينية السعودية؟ يصعب الاعتقاد بذلك، خصوصا بلحاظ الاختلاف الكبير بين قواعد مدرستي الأزهر والسلف. ولكن الذي حدث توافق بين مشيخة الازهر ومملكة آل سعود في شقها السياسي. وثمة دوافع عديدة لذلك: اولها صعود الاخوان المسلمين الى السلطة في اكبر بلد عربي، الامر الذي سيعجل في تغيير المنطقة لغير صالح قوى الاستبداد. ثانيا: ان مشروع الاسلام السياسي يلغي شرعية نظام الحكم السعودي الرافض للاصلاح والمتشبث باجندة معادية للديمقراطية والتطور. ثالثا: ان الطرفين، الازهر والسعودية، شعرا بانكشاف ظهرهما بصعود الاخوان. واذا اضيف لذلك تاريخ طويل من الحساسية ازاء اي مشروع تنظيمي مؤسس على ايديولوجية دينية، تتضح دوافع الطرفين للتحالف ضد حكم الاخوان. رابعا: ان الولايات المتحدة والغرب والكيان الاسرائيلي، يعلمون ان بقاء الاخوان في الحكم، خصوصا فيما لو نجحوا، او تحالفوا مع ايران، سيوفر بديلا حضاريا للمشروع الغربي العلماني الذي يهدف لحماية الكيان الاسرائيلي والمصالح الغربية في المنطقة. لقد حدث التحالف الازهري السعودي، وبدأت معه تداعيات خطيرة على مؤسسة الازهر نفسه. وما الاحتجاجات والتمرد في اوساط طلاب العلوم الدينية من الشباب الازهري الا تأكيد لحتمية التغيير في المؤسسة التي تمتد جذورها الى العهد الفاطمي. لقد ادركت قوى الثورة المضادة اهمية اطلاق خطاب ديني جديد يحاصر تيارات ‘الاسلام السياسي’، خصوصا الاخوان المسلمين وايران، كخطوة اساسية على طريق منع وصول تيار التغيير لمملكة النفط التي قادت الثورة المضادة منذ اليوم الاول لانطلاق الربيع العربي. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق