بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 ديسمبر 2013

يعيد الكنيسة إلى المسيح سمير عطاالله

"أدرس جدِّياً خلع هذه القلنسوة. أعرف أن كثيرين سوف يستفظعون هذا القول، لكنها حقاً تبدو غبيّة. ثم هل تتوقعون مني أن أصدّق أن الله يهمّه إن كنت أعتمر قبَّعة كبيرة مدبّبة أم لا. أرجوكم!"
"البابا فرنسيس"
 تنتخب بابا الكنيسة الكاثوليكية لجنة كرادلة أشبه باللجنة المركزية في الأحزاب. ومع ذلك فهو أبورعيته في كل مكان. ومنذ وصول الأرجنتيني فرنسيس، إلى ما كان يُسمى قبله "السدّة البابوية"، في لغة الأبَّهة الباطلة، رفع سوط الدِّعة كما رفع المسيح السوط على مباذل الهيكل. وبعد أشهر من انتخابه أصدر أمراً بتعليق حبرية مطران ليمبورغ، ألمانيا، بعدما بلغ الفاتيكان أن الأسقف المدلّل صرف 21 مليون أورو على تزيين مقرّه. سمّت صحف ألمانيا الأسقف المعزول "الحبر البلينغ". والبلينغ هو مغنّي "الراب" الذي يلفّ عنقه ويملأ صدره بالذهب، ومعاصمه بالأساور، ويرتدي الأثواب الأرجوانية الفاقعة، مثل الأصناميين.
البابا الآتي لإعادة الفاتيكان والكنيسة إلى أداء المسيح وجوهره، كان قد بدأ بنفسه: لم يذهب إلى الجناح البابوي في الحاضرة، بل شقة بسيطة فيها. وبقي يجول في روما في سيارة الفورد فوكس الصغيرة. والقديمة. ودعا جميع الرهبان والراهبات إلى الاكتفاء بالسيارات المتواضعة، لأن إخواناً كثيرين لكم في حاجة إلى طعام، فلا ترفَلوا.
أدّى سلوك البابا الجديد إلى انتعاش في صورة الكنيسة. ارتفع كثيراً عدد الحجاج إلى ساحة القديس بطرس. وفي دول علمانية مثل فرنسا وبريطانيا، عادت الناس إلى قداديس الأحد بأعداد غير مألوفة: وحتى النخب الثقافية التي نفَّرتها مظاهر البطَر، أخذت تُعيد النظر في علاقتها بالكنيسة وتدرس العودة إليها.
يليق بهذا الميلاد أن يكون البابا فرنسيس شخصية العام. إنه أقرب ما يكون، من زمن، إلى رسالة المذود وفكرة المسيح. وفي كتابه "يسوع الناصري": "الأسبوع المقدس" يقول سلفه، بينيديكتوس السادس عشر، إن ذكر يسوع يرِد كملك في نبوءة زكريا و"لكن ملك البسطاء والفقراء والسلام". هو لن يقيم الثورة على روما ولن ينشر الدماء، بل سوف يأتي القدس على جحش ابن أتان.
لا ألوان في المسيحية. لا زخارف. ثوب عادي وتقشّف. لا يد تُقبَّل إلا عند عَبَدةِ الإقطاع والأصنام. أول ما فعله البابا فرنسيس أنه قبَّل أقدام سجناء مُدانين. الغفران جوهري مثل البساطة. وُلد في مذود من أجل ضعفاء الأرض. عاش بين صيّادي الجليل. واحد منهم، وهو ليس من الجليل، كان يحب المال، فأوكل إليه "إدارة" مداخيل المجموع. وفي النهاية لفّ هذا عنقه بثلاثين فضية وعلّقها على شجرة تين. هاينريش هاينه يقول إن المسيح أدرك تعلّق يهوّذا بالمال فجعله "صيرفي" المجموعة. لم يعد لأسخريوط وجود على أرض فلسطين.
غابت الكنيسة طويلاً في الحروب. تاهت في مباذخ الأرض. طلبت تيجان الأباطرة. اشتغلت بالجيوش. تداخلت مع الرعاع فهزمها الرعاع. قلّمها موسوليني. تراجعت خلف أسوار الفاتيكان إلى أن جاء البولوني يوحنا بولس، من مطرانية كراكوف. ضبط العلاقة بين الكنيسة والسياسة. أعطى قيصر ما له، لكنه قال له أيضاً، لا تمسس رعيتي. لا تؤلّه نفسك. وإذا عامل كهرباء من غدانسك يُصبح سيداً في حلف فرصوفيا. يترك لينين وأدبيات ماركس الساحرة، ويعود إلى الفقراء، كما رآهم الفتى النجار الذي خرج من الناصرة، تاركاً ورشة يوسف ابن يعقوب المزدهرة في مكانها.
رومانسيات؟ أجل. إلى حد ما. نعرف أن الكنيسة ما كانت لتقوم وتستمر لولا المال. كيف كانت ستعلِّم وتقيم المكتبات العظيمة وتساعد المحتاجين وتدير المستشفيات ودُور الأيتام؟ ولكن لم ترتدِ الأم تيريزا سواراً ولا عقداً من الألماس لكي تقيم مملكة البَرَص والمنبوذين والذين بلا أمل أو عزاء. وهنا، ماذا فعل يعقوب الكبوشي، الذي نذر نفسه للبسطاء؟
تأمّل البابا فرنسيس المهاجرين يغرقون في الطريق إلى ميناء "لامبيدوسا"، وقال إنه "يوم الدموع". وتأمّل في بَطَر الأساقفة وسمّاهم "مطارنة المطارات". قال إنهم مثل الأزواج الذين يتطلعون دائماً في زوجات سواهم. وقال "الوصولية سرطان".
يبدو البابا فرنسيس في تواضعه وكأنه خارج من تعاليم جبل الزيتون ووصايا القديس بولس. وعندما يحضر الرعايا القداس، يصغون إلى فصل من الإنجيل وفصل من رسائل بولس، ويرون تناقضاً شاسعاً بين القول والإطار. بين ما يُبشِّرونَ به والتيجان المرصَّعة والعصي الذهبيّة والأثواب الـ"هوت كوتور".
في كثير من كنائس أوروبا لم تعد هذه المظاهر واردة حتى قبل وصول البابا الأرجنتيني. لم يعد في إمكان الكهَنة أن يتحدّوا مشاعر المصلّين. يخيّل إليّ أن خروج البابوية من أيدي الإيطاليين يعيد إلى الكنيسة الكثير مما فقدته في نزوات الإيطاليين وعصبيتهم وشعورهم بأن روما مِلك روما وحدها. لكن روما الكثلكة ليست روما القيصر. لقد أسسها صياد من الجليل، وبضعة تلامذة. وفي مراحل كثيرة صار البابا هو الإمبراطور، وخاض الحروب والتهى في السياسات؟
لا نريد المبالغة في المقارنات. ولكن لا شك في أن الثقافة الإيطالية أثّرت كثيراً في السلوك البابوي. كان أول ما فعله البولوني يوحنا بولس أنه اعتذر من غاليليو عما فعله به مواطنوه. وكان يقتضي أن يضع على لائحة الاعتذار باغانيني الذي قال مواطنوه إن الشياطين تحرّك أوتار كمانِه.
آخر ثلاثة بابوات أحدثوا ثورة في الفاتيكان: مطران كراكوف، القادم من بلاد العذاب في بولونيا، وبينيديكتوس السادس عشر، القادم من بلاد عقدة الذنب في ألمانيا، والآن هذا الأرجنتيني الذي اختار أن يكون شفيعه، أقرب الكهنة إلى تقليد المسيح، وشاعر السكينة والسلام وزهر اللوز.
كانت لبابوات روما، خلفيات وتأثيرات رومانية، بإرادتهم أو بإرادة المناخ الطاغي. أما الثلاثة الآخرون فحمل كل منهم إلى الفاتيكان مناخه الفكري وتأثّره الإنساني والبشري. أعتقد أن خورخي بيرغوليو يحمل إلى الكثلكة شيئاً كثيراً من تجربة الأرجنتين. هذا رجل قادم من بلاد إيفيتا ديوراتي بيرون، القديسة على طريقتها: شيء من المجدلية وشيء من الأم تيريزا. لم يحبها الأغنياء. وأطلقوا الشائعات عن فقرها الأول في "لوس تالدوس". لكن المرأة التي بدأت حياتها كالمجدلية باتت صورة معلّقة على جدران الفقراء في الأرجنتين. أجمل ما حدث لأميركا اللاتينية في عالم النساء.
قادم هذا البابا من ثقافة أخرى. ليس من أبَّهة روما بل من بلد يقع على حافة الأرض. سوف تُضطر الكنيسة، في كل مكان، إلى إعادة النظر في نفسها، وخصوصاً هنا في الشرق، حيث لم يبقَ منها الكثير. كأنما هي ستُقلَع من الأرض التي ولدت فيها، ما بين الإنجيل في الجليل و"الرسالة" على مدخل دمشق.
ثمة ترجمة جديدة في لندن لكوميديا دانتي، وضعها الأوسترالي الذهبي (يعيش في بريطانيا) كلايف جيمس. يلاحق دانتي الخوَنة في الجحيم. وفي قعر جهنم يضع للشيطان ثلاثة أفواه لكي يلتهم بها أشهر ثلاثة خوَنة في التاريخ، بروتوس وكاسيوس خائنَيّ يوليوس قيصر، ويوضاس، بائع دم المسيح. منذ ذلك التاريخ أصبح الدم رمزين، الخلاص والخيانة. النُبل والصفقة. الانتماء والفضة. ثمة قضايا، في الحياة والموت، لا مكان فيها للحياد.
التفت الأب فرنسيس الأول إلى الشرق وشعَر بالذعر. ليس خوفاً على المسيحيين فقط بل على كنيسته أيضاً. فهي في الماضي كانت عضَد روما الفكري. وكان علماؤها أعمدة في الكاتدرائية الليتورجية. أخافه أن بعضها غارق في المحليات الصغيرة. وضاق صدره بالشكاوى التي تأتي من أبناء الرعية.

ليس للفاتيكان جيش، كما قال ستالين، فيما هو يجوِّع حتى الموت، مئات الآلاف من البولونيين والأوكرانيين. لكن يوحنا بولس عاد فهزمه في قلب بولونيا. وأعاد للفاتيكان دوراً في الأمم. وجاء بعده راتسينغر ليكرّس انتصار رداء المسيح على بزّة هتلر، الذي قامت الدعاية النازية على أنه أقوى من نجار الناصرة وأهم، ومرة ثالثة أسقف روما ليس من روما. ليس من ثقافة الفتوحات وضراوة الأمبراطوريات. من بلاد إيفيتا بيرون، مجدلية الفقراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق