بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 ديسمبر 2013

قبائل لا تستحق لقب دولة امين قمورية

مسلسل الانفصال والتقسيم في الإقليم في ذروته، وحمى التشظي والانشطار بلغت تضاريس اليمن وسوريا وليبيا والعراق والصحراء الغربية، وكل تفاعلات الازمات السياسية المتلاحقة على مدى الخريطة السياسية والجغرافية العربية تدل على ان الآتي اعظم في هذه المنطقة في ظل التفكك والفتن المذهبية وتفشي العصبيات والاحقاد والجهل والجنون.
من زمان، ثمة اسباب كثيرة تغذي التقوقع والانعزال والنزعات الانفصالية وثمة متحمسون كثر لها ولديهم في جعبهم كل المبررات النظرية والعملية للافتراق والطلاق بين مكونات البلد الواحد: عدم قدرة الانظمة التوتاليتارية الحاكمة بكل اشكالها على إرساء المقومات الأساسية لوحدة دولة جاذبة ومنتجة، انسداد الأفق السياسي ما يعني فتح الباب لسقف المطالب التي تصل للكلمة الساحرة المقلقة المفزعة وهي الانفصال ولا شيء غير الانفصال، تشريع الابواب المحلية للتدخلات الخارجية والعبث بأمن البلاد واستقرارها، ضعف المشروع التنموي بكافة تجلياته، عدم تأسيس دولة المواطنة، الغياب الكلي للديمقراطية وتداول السلطة، تجاهل القانون ومبادىء المساواة، عدم بناء دولة تنموية، ناهيك عن الأوبئة المذهبية والطائفية والعرقية والعشائرية التي تنهش المجتمع.
ما يحدث اليوم في جنوب السودان من اقتتال مريع بين ابناء الهوية الثقافية الواحدة، فاجعة لانصار التقسيم والانفصال ولنظرياتهم التي تبرر انكماش الكيانات الطائفية والاتنية على نفسها والابتعاد عن الشركاء الآخرين في الوطن.
كان الزعيم التاريخي للجنوبيين في السودان جون غارانغ يدرك تماما ما ستؤول اليه الاوضاع في الاقاليم الجنوبية في حال انفصالها عن الشمال لذا سمى تنظيمه السياسي "الجبهة الشعبية لتحرير السودان" وليس جنوب السودان وظل حتى اللحظة الاخيرة من حياته متمسكا بوحدة البلاد شرط ان تتمتع بحكم ديمقراطي فيدرالي يمنع تطبيق الشريعة ويضمن المساواة بين المواطنين في بلد مترامي الاطراف متعدد الهوية والثقافة والدين والعرق. كان يدرك ان انفصال جوبا عن الخرطوم سيعزل جوبا ويجعلها تبتعد عن الشمال وتغرق في جنوب الجنوب الاشد فقرا منها، لا بل ان الصراع السياسي المتلبس لباس الهوية والثقافة بين الشمال والجنوب سيتحول صراعا اتنيا في الجنوب بعد طلاقه مع الشمال.مات غارانغ ميتة غامضة ومهد موته الطريق لدعاة التقسيم ومن يقف وراءهم لتحقيق مرادهم بالاستقلال عن الوطن الام وبناء دولة خاصة للجنوبيين يحفزهم على قيامها الاغراء النفطي والثروات الموعودة. أعلنت الدولة المستقلة المنتظرة بعد مسيرة دموية صاخبة ولاح علمها فوق منصات الامم المتحدة. لكن الامراض التي نخرت وحدة السودان الكبير، لم تتجنبها سلطة الخرطوم ولم يعالجها الحكم الوليد في جوبا، فلا يزال السودان المبتور عرضة لمزيد من التفكك والانهيار فيما جنوب السودان "الناهض" يقف على عتبة حرب اهلية بين قبائله تغذيها صراعات على السلطة والنفوذ والنفط والمال.
الاقتتال بين الجنوبيين دليل على ان التقوقع والانعزال وانفصال الاقلية المظلومة عن الاكثرية الظالمة ليس بالضرورة حلا لمشكلة المواطنة والمساواة، لا بل قد يكون وصفة قاتلة لمزيد من الاقتتال والتشرذم في أي كيان انفصالي جديد في ظل غياب الديمقراطية وحكم القانون، ذلك ان اقلية جديدة ستشعر بالتهميش والظلم في ظل اكثرية جديدة تتلذذ بسيادتها الجديدة. وهذا ماتشعر به قبائل النوير والشلك في ظل حكم الدينكا في جنوب السودان.
 في منطقتنا لا تحتاج الحروب الأهلية الى وقود لتشتعل. يكفي ان تتشكل الدول او الكيانات من أديان اومذاهب او قبائل مختلفة كي يكون ذلك مبرراً ليبدأ إطلاق النار وحفلة الشواء والقتل بين المتخاصمين. كل المواد الأولية موجودة وصالحة، سواء كانت خلافات سياسية أو صراعات حزبية، حتى لو خيّل للوهلة الأولى أن كل عناصر وشروط الانسجام والتفاهم قائمة وكاملة.
ولا يقتصر الأمر على جنوب السودان طبعا، فالشمال الذي كان يفترض أنه تخلص من "العبء" الجنوبي، وأنه قرر الانصراف إلى معالجة مشاكله الداخلية، وجد نفسه هو الآخر ضحية صراع داخلي بين حكم البشير وخصومه، فضلاً عن العزلة الدولية التي يواجهها بسبب الاتهامات الموجهة إلى رئيسه على خلفية الارتباكات في إقليم دارفور. كيفما نظرت من المحيط الى الخليج تجد المرض ذاته والعلة ذاتها، منطقة منكوبة بالتخلف والجهل وبالتناحر المزمن بين أهلها. والأمر الأكيد هو أننا لم نبلغ بعد مرحلة بناء الدول، تلك المرحلة التي يضع فيها المواطن ولاءه لوطنه أولاً قبل ولائه لطائفته أو مذهبه أو قبيلته أو عشيرته. لذلك تفترق شعوب "دولنا" عند أول منعطف، ويبحث أهلها عن الطلاق الذي يعتقدون أنه يحل مشاكلهم، في الوقت الذي تسعى دول أخرى إلى التوحد في ما بينها على قاعدة احترام الآخر، واحترام خصوصياته كلها بما تحمله من فوارق ثقافية ودينية واجتماعية.

دولنا باختصار خليط مفكك من القبائل والعشائر والطوائف التي لم تصل بعد إلى مرحلة الدولة، ولا تستحق في الحقيقة صفة الدولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق