بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 22 ديسمبر 2013

مجلس التعاون الخليجي في مواجهة الـ «جنيفَيْـن» طوني فرنسيس

ليست جامعة الدول العربية في أفضل حالاتها، بل هي أقرب إلى جسم مشلول منها إلى منظمة إقليمية فاعلة.وتكشف التطورات في العالم العربي حجم غياب هذا الكيان الذي قام قبل أكثر من ستين سنة في فورة الطموح العربي إلى وحدة بقيت طي الأحلام. آخر بيانات الجامعة، مثلاً، تناول مشاركة وفد منها في تشييع مانديلا، وفي بيان آخر دانت محاولة الانقلاب في جنوب السودان، أما الحدث الذي
أولته عنايتها فكان استطلاعاً للرأي حول التصميم الجديد لموقعها على الإنترنت، وجاءت النتائج مخيبة حيث قال حوالى 42 في المئة من المشاركين في الاستطلاع: «إن التصميم «مقبول»، ما يعني «سيئ» عندما تحصر الأجوبة بممتاز وجيد و... مقبول».
تراجع دور الجامعة بفعل انشغال مصر بتحولاتها الداخلية وبسبب الأحداث المتلاحقة منذ ثلاث سنوات في أنحاء العالم العربي. قبل ذلك لم تكن في أحسن حالاتها، بل هي عاشت على هامش المحطات الكبرى التي ميزت تاريخ المنطقة الحديث، ومنها القضية التي تشغلها دائماً وهي القضية الفلسطينية، وقضايا لاحقة لا تقل خطورة، من غزو العراق للكويت إلى الغزو الأميركي للعراق ومن حروب لبنان إلى حروب سورية اليوم.
في المقابل برز مجلس التعاون الخليجي الذي تنضوي دوله في إطار جامعة الدول العربية، قطباً فاعلاً يلعب أدواراً تعجز عنها الجامعة الأم. صحيح أن المجلس موجود منذ أكثر من ثلاثين سنة، إلا أنه تحول في الآونة الأخيرة إلى قطب يعبر عن موقف عربي فاعل وقادر ليس فقط بفعل عجز الجامعة الممثل الرسمي للصوت العربي الواحد، ولكن، لأنه يتمتع بشخصية معنوية تستند إلى التقاء كبير في مصالح الدول والشعوب التي يمثلها، وإلى التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها.
قام المجلس في مواجهة التحديات الأمنية الخارجية، الإيرانية تحديداً منذ اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية في 1980، لكن الهموم الأمنية كانت سابقة على هذا التاريخ والتعاون في مواجهتها أيضاً، واللافت أنها كانت تتراكم مع تحقيق دول المنطقة استقلالها. ففور إعلان استقلال الكويت في 1961 هدد حاكم العراق عبدالكريم قاسم باحتلالها، ما دفع بالسعودية إلى إرسال ألفي جندي للوقوف إلى جانب القوات الكويتية الفتية، وبعد عشر سنوات واجهت إيران الشاه استقلال دولة الإمارات باحتلال اثنتين من جزرها الثلاث هما طمب الكبرى وطمب الصغرى، ثم ضم الحكم الخميني جزيرة أبو موسى. وجاء تصدير الثورة، ثم الحرب مع العراق ليجعلا فكرة تعميم التعاون أكثر إلحاحاً.
كان الغرب يتعامل مع قيام مجلس التعاون من دون اهتمام كبير، ربما لأنه كان يدمجه في سياق سياساته الإقليمية باعتباره حليفاً في المواجهة مع إيران. وفعلت إيران الشيء نفسه تقريباً، معتبرة المجلس ومواقفه عاملاً ثانوياً في سياق صراعها مع «الاستكبار العالمي» وسمحت لنفسها في السياق بمواصلة سياسة «الشاه المقبور» تجاه الإمارات وطورت مطامعه إياها في خصوص البحرين. إلا أن عاملين أساسيين عدلا الصورة وجعلا الاهتمام بموقف دول مجلس التعاون يقفز إلى الواجهة شرقا وغرباً. فمنذ حرب تموز (يوليو) في لبنان عام 2006، ثم سيطرة حركة «حماس» على قطاع غزة في العام التالي (2007) فسيطرة «حزب الله» على بيروت بعد عام (2008)، شعرت المملكة العربية السعودية بأن التدخل الإيراني في المشرق العربي فاق التصورات، وجاءت عملية فرض نوري المالكي على رأس الحكومة العراقية (2010) على رغم خسارته أمام التحالف الذي قاده أياد علاوي لتؤكد المخاوف السعودية والخليجية التي لم يكن ينقصها سوى إعلان طهران أن ما يجري من ثورات في بلدان عربية هو صحوة إسلامية على الطريقة الإيرانية استدعت تدخلاً مذهبياً في البحرين، وآخر مماثلاً في سورية.

ايران - تركيا
كان ذلك العامل الأول في دفع دول الخليج إلى التنبه والاستنفار، أما العامل الثاني فكان تتويج الولايات المتحدة الأميركية عقود صراعها مع إيران باتفاق في جنيف جرى التمهيد له سراً في ست جولات من المفاوضات المباشرة عقدت في سلطنة عمان، في وقت تشعر الدول العربية الخليجية بأن هذا الاتفاق، مترافقاً مع تراخ غربي تجاه نظام الرئيس السوري بشار الأسد، سيقود حكماً إلى توطيد النفوذ الإيراني في المشرق ويهدد مصالح العرب عموماً ومنطقة الجزيرة العربية ودولها، خصوصاً أنه ترافق مع ظهور ملامح تفاهم تركي - إيراني يسابق مؤتمر «جنيف – 2» وضغوط بهدف ضرب صدقية مجلس التعاون ومتانة قواعد قيامه.
عشية القمة الأخيرة لدول مجلس التعاون التي استضافتها الكويت واستنفرت من أجل نجاحها كل طاقاتها الديبلوماسية وإمكاناتها اللوجيستية تحركت القوى المحيطة في شكل غير مسبوق. قبل حوالى أسبوعين من القمة، حط وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو في طهران وأعلن بعد محادثات مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف أن «إيران وتركيا تتفقان على حل الأزمة في سورية... وليس لها حل عسكري». كان ذلك تحولاً جوهرياً في الموقف التركي بعد عامين ونصف العام من تهويل رجب طيب أردوغان باقتلاع الأسد أو، على الأقل، إنشاء منطقة عازلة بحماية عسكرية دولية. ولم يحصل التفاهم التركي – الإيراني فجأة، فوفق روايات إعلامية تم التقدم نحوه بين وزيري خارجية البلدين في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) وتأجل الإعلان عنه إلى ما بعد اتفاق جنيف في شأن الملف النووي الإيراني.
في الفترة عينها تدافعت أخبار عن سعي قطري لإعادة التواصل مع الأسد وتحدث الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله عن اتصالات قطرية مع حزبه، ومن جنوب الخليج العربي تصاعد صوت عماني مفاجئ يرفض تحول صيغة التعاون إلى اتحاد... فيما كان ظريف يختتم جولة خليجية، بدأها في مسقط، أسمع خلالها مضيفيه كلاماً فائق الطيبة والشفافية مسجلاً رقماً قياسياً على تويتر وفايسبوك في إعلان الرغبة بزيارة السعودية.
عشية القمة الخليجية في الكويت. قال ظريف في الدوحة: «ندعو السعودية إلى العمل معاً، لإحلال الأمن والاستقرار في المنطقة». وكتب على صفحته في فايسبوك: «نحن مستعدون لإجراء مشاورات مع كبار المسؤولين السعوديين في كل وقت يكون الإخوة في السعودية مستعدين لذلك». وبدا واضحاً أنه بعد اتفاق 24 تشرين الثاني باتت السعودية ودول الخليج العربي هدفاً للسياسة الإيرانية من منطلق الاحتواء والإغراء، والوصول إلى هذا الهدف وتكريس إيران لاعباً حاسماً في المنطقة لا يمكن أن يتحقق من دون استجابة سعودية وخليجية عامة، ما يستلزم بالتالي شل مجلس التعاون وإعادته إلى صيغة النادي الدوري للقادة والحكام.
لم يكن ظريف موفقاً في عرض نواياه الحسنة، فهو إذ لم يواجه مشكلة في عمان التي استضافت المفاوضات السرية الإميركية - الإيرانية على مدى شهور، لم يسعفه الكلام كثيراً لدى تودده للإمارات التي تشكو من احتلال إيران جزرها الثلاث، ومع أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد تحدث عن الاتفاق النووي بصفته «إنجازاً عظيماً لإيران» واعتبر أنه «لا توجد بين قطر وإيران أية مشكلات تاريخية»، فإن هذا الكلام لا يعبر عن حقيقة الوضع، إلا إذا صدق كلام المحللين عن استدارة قطرية في الموضوع السوري. رفضت السعودية الإغراءات الإيرانية ولم تستجب لمغازلات ظريف، وركز الكويتيون على أهمية التعاون الاقتصادي مع ضيفهم من طهران، وانخرطوا بقوة في إزالة الغيوم التي بدا أنها تتراكم في سماء العمل الخليجي المشترك، بالتعاون مع الديبلوماسية السعودية وبالتواصل مع العمانيين والقطريين وبالتنسيق مع الإماراتيين والبحرينيين.

قطبة مخفية
كان كلام تشاك هاغل وزير الدفاع الأميركي في البحرين قبل يومين من قمة الكويت، رسالة إلى الخليجيين أنه يمكنهم الاعتماد على القوة الأميركية في الدفاع عن أنفسهم. وظهر أن في الأمر قطبة مخفية أخرى: لماذا هذا الهجوم الودي الإيراني يترافق مع تطمينات حربية أميركية تواكبه إثارة عمانية غير مبررة لموضوع تحويل المجلس إلى اتحاد؟ علماً أن العمانيين وغيرهم يعرفون أن مسألة الاتحاد مطروحة للبحث والتشاور وأنها مرهونة بتحقيق خطوات أساسية على طريق التكامل الاقتصادي والمالي والسياسي بين الدول الخليجية؟
هل كان الهدف الضغط لجعل اللقاء الـ34 لقادة الخليج مجرد اجتماع عادي يغرق في مشكلات صغيرة، يضاف إلى سلسلة طويلة من الاجتماعات التي تابعها العالم من غير كبير اهتمام؟ الأرجح أن هذه الرغبة لم تغب عن بال من يزعجهم تحول دول المنطقة إلى قوة قادرة ونواة صلبة للعمل العربي المشترك. وهؤلاء في أميركا وإيران وتركيا وروسيا وغيرها كانوا يخشون صدور مواقف مناهضة للـ «جنيفين» الإيراني والسوري، ولا يرغبون بدور مؤثر لهذه المجموعة العربية في مصر، ولا في سورية، ولا في العراق، أو في لبنان وحكماً ليس في فلسطين. كانوا يرغبون في إبقاء دول الخليج في موقع الانتظار لما سيتقرر خارجها.
أظهرت صيغة البيان الختامي لقمة الكويت وكلمة أميرها في الافتتاح والاختتام، أن القادة الخليجيين تلقفوا الأخطار جيداً فجهزواً رداً في مستواها. لم يصطدموا بالمجتمع الدولي في اتفاقه مع إيران، بل رحبوا بالاتفاق، ولم يخوضوا حرباً مع إيران في خياراتها المعلنة، بل واجهوها في سورية ولبنان والعراق حيث تتحول هذه الخيارات إلى تدخل قاتل في النسيج العربي، وحسموا موقفهم في شأن مصر بما يترك الباب مفتوحاً أمام خيارات شعبها، وفي فلسطين لم يذهبوا وراء أوهام تسوية جديدة، وإنما عادوا إلى ثوابت المبادرة العربية وعلى أساسها رحبوا بالجهود الأميركية. جاء البيان الخليجي الختامي بمثابة فك اشتباك مع تعقيدات الوضع الدولي لمصلحة الانخراط الأعمق في مواجهة القضايا العربية الساخنة. وبالطبع هذا يتيح مجالات أوسع للحركة والمناورة يفترض أن تظهر نتائجها لاحقاً، وربما نتلمس أولى هذه النتائج في القمة الدولية الإنسانية الثانية المخصصة لإغاثة الشعب السوري والتي ستستضيفها الكويت مرة جديدة منتصف الشهر المقبل.
نجح الخليجيون في رسم سياسة خارجية مرحلية موحدة، وباتت ملحة الآن معرفة عملية تنفيذ هذه السياسة، فالأوضاع خطيرة بما لا يسمح بالانتظار. أما الجانب الآخر المتعلق بآليات التكامل، فهو أيضاً سيحتاج إلى متابعة حثيثة، لأنه في تحصين هذا التكامل بالذات تنمو احتمالات استرجاع العرب موقعهم في لعبة الأمم على أرضهم.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق