بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 22 ديسمبر 2013

تونس: الدبّ الجائع والأسد الهرم محمّد الحدّاد

 في الذكرى الثالثة للثورة التونسية، التي بدأت بإحراق الشاب محمد البوعزيزي نفسه يوم 17/12/2010، اتضح جلياً أن أشياء كثيرة تغيّرت، بعضها للأحسن وبعضها للأسوأ، لكن اتضح بجلاء أكبر أن الثورجيّين، أي الراكبين على الثورة من الأيديولوجيين والانتهازيين، تراجعت أدوارهم وتأثيراتهم بشكل لافت، وأنّ هناك عودة قوية للعقل والمنطق السليم، وأنّ
أغلب المواطنين التونسيين لم تعد لديهم رغبة الدخول في المغامرات والمجازفات، فهم بقدر حرصهم على الحرية والكرامة يدركون جيداً أن مستقبلهم ومستقبل بلادهم مرتبط باستعادة الأمن وإعادة الحيوية للدورة الاقتصادية واسترجاع هيبة الدولة.
الذكرى الثالثة للثورة مرّت باهتة، فأغلب التونسيين فضلوا ملازمة بيوتهم. فقط بعض العشرات من المتطرّفين خرجوا للتظاهر، بعضهم من تنظيم «أنصار الشريعة» المحظور، وبعضهم من «حزب التحرير» المنادي بعودة الخلافة، والبعض الآخر ممن يدعى بلجان حماية الثورة. لقد بدوا منفصلين تماماً عن عامّة الشعب، وكانت شعاراتهم بعيدة كل البعد عن هموم المواطنين.
يقابل هذا المشهد البائس تخلّي «الرؤساء الثلاثة» (المرزوقي- بن جعفر- العريض) عن التوجه إلى سيدي بوزيد لحضور احتفالات الثورة، كي لا ينالهم نفس مصيرهم في السنة الماضية عندما طُردوا شرّ طردة، وهو ما يؤشر أيضاً إلى الهوّة التي أصبحت تفصل السلطة «الثورية» عن الشارع «الثوري»، أو ما بقي منه.
لم تعد الأنظار متجهة إلى الماضي، وإنما إلى «الحوار الوطني» الذي لم ينجح في تعيين رئيس حكومة جديد فحسب، لكنه نجح في إطلاق مسار جديد من الأمل، وتعديل المسار تعديلاً إيجابياً، على رغم أن الوقت لم يحن بعد للخروج باستنتاجات نهائية حول الوضع التونسي.
فـ «عصر الإسلاميين» انتهى في تونس، والحركات الإسلامية الراديكالية تراجع شأنها، مع أن هذا التراجع قد يدفع بها إلى مزيد من السقوط في مستنقع الإرهاب، وحركة «النهضة» لم تعد ذلك الدبّ الجائع الذي برز بعد انتخابات تشرين الأوّل (أكتوبر) 2011 والذي كان يريد التهام كل شيء، ولم يعد أحد من قياداته يتحدث عن الخلافة الراشدة والإشارات الربانية والمثلث الثوري وتصدير الثورة، الخ. فالمدة القصيرة التي أمضاها الإسلاميون في السلطة كشفت لهم أن إدارة بلد ليست بالأمر الهيّن، وأنه ليست لديهم الكفاءات والخبرات لتولي هذه المهمة. لذلك قبلوا بتقليص حضورهم في الحكومة مرة أولى بعد استقالة حمادي الجبالي، ويستعدّون للخروج منها أصلاً بعد تعيين مهدي جمعة.
طبعاً هذا لا ينفي أنّ «النهضة» تظل فاعلاً سياسياً رئيسياً، وأنها الحزب الوحيد المنظّم تنظيماً محكماً، لكنها أصبحت أوّل من يدرك أنها تفقد شعبيتها كلما استمرت أكثر في الحكم، لأنها ببساطة لا تحمل مشروعاً للبلد وأن عليها ترك الواجهة لغيرها، يكفيها أن لا تنقلب اللعبة عليها ويحصل ما كانت تسميه بالانقلاب الناعم، وأن تتلافى مصير «الإخوان المسلمين» في مصر. وممّا لا شك فيه أن ما حدث في مصر في 30 يونيو الماضي كان له تأثير كبير في تونس، لكن الأهمّ غياب المشروع لدى الإسلاميين التونسيين وتردّدهم أمام كل القرارات، والتناقض الصارخ بين الوعد والإنجاز، وانخراطهم في عقلية الغنيمة، وعدم حسمهم في الوقت المناسب في قضية الإرهاب.
بيد أن تراجع «النهضة» لا يعني انتصار المعارضة التقليدية التي لا تحمل بدورها مشروعاً وطنياً واضح المعالم، وليس لها من القدرات إلا قدرة المناورة، وليس من المؤكد أنها تحظى بعمق شعبي حقيقي، فهي زعامات أكثر منها أحزاباً، تضخّم دورها بانتشار الخوف من سيطرة الإسلاميين، وتراجع هذا الدور بتراجع هذا الخوف. وهذا ما لم تفهمه تلك الزعامات، بل إن بعض تصرفاتها ومواقفها خلال الحوار الوطني كان أشبه بالمراهقة السياسية من تصرف سياسيين كبار.
من المرجح أن كل الطبقة السياسية التي ركبت الثورة ونصّبت نفسها وصية على مصيرها تخرج خاسرة من الحوار الوطني، وأن هذا الحوار أكّد مجدداً الدور الحاسم للمجتمع المدني في حماية البلد وتوجيهه. فالرعاة الأربعة للحوار (النقابة العمالية، اتحاد الأعراف، جمعية المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان) جاءت من خارج الطبقة الحزبية وفرضت نفسها فاعلاً أساسياً بسبب ضعف الأحزاب وتهافتها على الغنيمة وغياب الرؤية الواضحة لديها، ولقد أثبتت نتائج الحوار الوطني أنّ المجتمع المدني فاعل سياسي قائم بذاته وأكثر قدرة من الأحزاب على تصوّر البدائل واقتراح المخارج.
ولا يقتصر المجتمع المدني على تلك المنظمات الأربع الكبرى، بل هو أيضاً مئات الجمعيات وبعض المثقفين الذين اختاروا منذ بداية الأحداث أن ينأوا بأنفسهم عن المشهد الحزبي البائس ويعملوا في العمق لفائدة الوطن. وكم يبدو غريباً أن نرى المعارضة التقليدية اليوم تتهم الرباعي الراعي للحوار بأنه «باع» نفسه لحركة «النهضة»، لأن كل من يعرف حقائق الأمور يدرك الهوّة التي تفصل قيادات تلك المنظمات عن حركة «النهضة»، ويعلم علم اليقين استحالة أن يحدث أي تحالف بين الطرفين.
لكن الحقيقة أن المعارضة التقليدية لا ترى من المشهد إلاّ نفسها و «النهضة»، فإذا لم تستفد هي افترضت أن «النهضة» هي المستفيد، ولا تدرك أن المشهد أوسع بكثير مما تظن وأن تونس إذا بقيت محافظة على قدر أدنى من هيبة الدولة ومن عمل المؤسسات ونجحت في التصدي لمشروع الأخونة ولتنظيمات الإرهاب، فذلك ليس بفضل منها، ولكن بفضل قوة المجتمع المدني.
تبدو تلك المعارضة التقليدية مثل الأسد الهرم، انتظرت طويلاً نهاية عهد بن علي لتؤول إليها السلطة، لكن العهد طال، وهرم هؤلاء الزعماء الذين نشأوا جميعاً في العهد البورقيبي، ولم تبق لهم إلا القوّة على الزئير. لكنّ الجميع أصبح يدرك أن هذه القوّة لا تتناسب مع العمق الشعبي والقدرة على التخطيط، وأن كثرة التهديد والوعيد لا تتناسب مع القدرة الحقيقية على التأثير، وأن كثرة الظهور الإعلامي لا تعني إحكام السيطرة على الوضع السياسي.

اليوم، لم يعد التونسيون مضطرين لانتظار نهاية المعركة بين الدبّ الجائع والأسد الهرم، حتى يعرفوا مصيرهم. يبدو أنهم اليوم عازمون على تحديد هذا المصير بأنفسهم وأنهم مصرّون على أن لا يكونوا غنيمة لأحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق