
طريقا مثل غيرها؛ في الصين والهند وكوريا وجنوب افريقيا.ونسبة الفقر في مصر من مصدرها الحكومي تجاوزت 26′، وتشمل قطاعا عريضا من المعدمين، وهذه نسبة مشكوك في صحتها في بلد يعاني شبابه من البطالة العالية، ويعتمد على الاستيراد بدل الإنتاج، وتضيق فيه فرص العمل، وكما فشلت الحكومات السابقة عجزت حكومات ما بعد الثورة عن تأهيل مصانع وشركات أعادها القضاء لأصول وأملاك الدولة مع اكتشاف فساد برنامج الخصخصة وزيادة مستوى النهب الذي ارتبط بها، وهذا يرفع النسبة إلى أربعين في المئة وقد تزيد، وغير النسبة المعلنة هناك من يعيش على حد الكفاية، وهؤلاء بالمعايير الدولية والإنسانية فقراء أيضا، وهم فئات يتراوح دخلها اليومي ما بين دولارين، إلى ست دولارات.
معضلة الفقر والإفقار التي بدت مستعصية
على الحل استقرت على قواعد وتقاليد تمييز حاكمة في التعامل مع قوة العمل المصرية، وتقوم
على عدم المساواة، وغياب الفرص المتكافئة، ووصل الحال إلى أن أصبح الفقر إرثا والغنى
إرثا؛ فالفقير يرث فقر أبيه مهما كان نبوغه وتفوقه، والغني يرث ثراء أهله مهما كان
غباؤه وجهله، فرجال الأعمال يورثون أولادهم الإمكانيات والحظوظ المواتية، وهكذا أبناء
أساتذة الجامعات والأطباء والقضاة ورجال القانون وضباط الشرطة؛ يرثون وظائف آبائهم،
ووراثة الفقر والغني ليست قاصرة على مصر وحدها، فالكل يذكر نموذج محمد البوعزيزي الجامعي
التونسي، الذي سدت في وجهه كل أبواب الرزق فعمل على كسب رزقه ببيع الخضار على عربة
يد (نقالي)، ولم تتحمل كرامته صفعة شرطية أهدرت ما تبقى له من كرامة، وضاقت به الدنيا
فأشعل النار في نفسه تخلصا من المهانة، ولم يكن يدري أنه وهو يشعل النار في جسده يشعل
الثورة في تونس ومصر.
قبله بسنوات حُرم محمد عبد الحمبد شتا الجامعي
المتفوق من وظيفة ملحق في السلك التجاري المصري، ولم يشفع له ترتيبه المتقدم دراسيا،
ولا اجتيازه اختبار القبول بامتياز، وحين ذهب ليتسلم خطاب تعيينه، وجد بدلا منه رسالة
تعترف بتفوقه وتميزه، ولكنها أنكرت عليه حق شغل الوظيفة، التي بدت محجوزة لغيره، فالرسالة
نصت على أنه ‘غير لائق اجتماعيا’، ووضع رسالته في جيب سترته وذهب وألقى بنفسه في نهر
النيل، وذنبه أنه من ‘سلالة’ الفلاحين؛ لأب كدح واجتهد وعانى حتى مكن ابنه من ذلك المستوى
العلمي والأكاديمي الرفيع، الذي أهله لتقلد أرفع الوظائف!!.
ويأتي مشروع الدستور الجديد ليقصي الفلاحين
والعمال التزاما بمبدأ ‘عدم اللياقة الاجتماعية’، ويحرمهم من حقهم المشروع والمكتسب؛
سياسيا وقانونيا وإنسانيا وأخلاقيا وتاريخيا في التمثيل بالمجالس المنتخبة بنسبة
50′ على الأقل، وهو ما نصت عليه دساتير مصر منذ ستينات القرن الماضي، ومن االمفترض
أن الحقوق تزيد ولا تنقص مع التطور إلا في مصر، والسبب هو وقوعها في قبضة قوة حاكمة
وغاشمة؛ لا ترحم ولا تفهم، ولا تقدر عواقب هذا التضييق على استقرار البلاد، وحتى لو
كان ذلك المكسب قد تشوه وزُيف فلا يعني عدم سلامته، وكان يستوجب التصحيح وعلاج ما به
من عوار. و’عدم اللياقة الاجتماعية’ منذ رحيل جمال عبد الناصر أضحت مبررا للإقصاء وسلب
الجدارة، وتقليص وجود القوى الشعبية في البرلمان والمجالس المنتخبة!!
من الذي يحدد مواصفات هذه اللياقة؟ هل هو
عمرو موسى المعادي بطبيعته لأي مكسب شعبي؟ أم ‘الحكومة الخفية’، وقد أصبحْت على يقين
بأنها تحكم من وراء ستار؟ وكيف يحدث هذا في وجود ممثلي ‘تمرد’ وفي حضور سامح عاشور
نقيب المحامين، ومحمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب، وجابر جاد نصار رئيس جامعة القاهرة،
وكمال الهلباوي الناشط الإسلامي المعروف وغيرهم من وجهاء وفقهاء السياسة والقانون؟
سؤال يجيب عليه من حلل تركيبة اللجنة وعرف اتجاه مصالحها وهواها، الذي جعلها تختار
عمرو موسى رئيسا لها!!
ولفت المهندس عزت هلال؛ خبير منظومات المعلومات
في مدونته الأنظار إلى زاوية أخرى للتمييز السلبي في مشروع الدستور، وأورد نصا لفقرة
في ديباجة المشروع تقول: ‘وتعرضت بعض فئاته (القصد فئات الشعب) لمظالم عديدة بسبب خصوصيتها
الثقافية وموقعها الجغرافي، كأهل النوبة والصعيد وسيناء والواحات’ وهنا سأل هلال سؤالا:
‘هل يتمتع أهل النوبة والصعيد والواحات بخصوصية ثقافية لا يتمتع بها باقي المصريين؟..
لماذا لم تضف الديباجة أهل الإسكندرية مثلا أو مدن القناة أو الدمايطة؟
وهل كانت الخصوصية الثقافية سببا في الظلم
الواقع على أهل النوبة والصعيد وسيناء والواحات؟ هذا تحليل خاطئ’، من وجهة نظره. وأشار
إلى أن الخصوصية الثقافية لفظ سلبي والإيجابي هو ‘عبارة التنوع والتجانس الثقافي’ ولا
يجب ربطها بأي ظلم اجتماعي، ‘فالفلاح الفقير في قرى الوجه البحري يتعرض لظلم اجتماعي
وطبقي رغم أنه لا ينتمي إلى أي خصوصية ثقافية، وسكان العشوائيات الفقيرة في قلب القاهرة
والمدن الكبرى كذلك يتعرضون لظلم اجتماعي، ولا علاقة لهذا الظلم الاجتماعي بانتماءاتهم
الثقافية’.
ومن جانبي أزيده على القصيد بيتا، هو أن
النص الوارد في الديباجة أتى استجابة لضغوط جماعات وجمعيات ومنظمات أهلية مؤمركة ومؤوربة..
أي ممولة من حكومات ومنظمات ومؤسسات أمريكية وأوربية وغربية، وكلها تتبنى ‘أجندة’ الممولين،
وهم يعبرون عن ‘الليبراليين الجدد’، الذين يدعمون مخطط فك وتركيب المنطقة وفقا لمنطق
دعاة جعل القرن الوحد والعشرين قرن أمريكيا، ومهمتهم نشر ثقافة التمييز السلبي، وبث
الفوضى، والتعامل مع المجتمع المصري كفسيفساء لا تقبل الانسجام ولا الانصهار أو التعايش،
وهذا على العكس تماما من طبيعة مصر التاريخية؛ ومللنا من تكرار أنها أول بلد وحدوي
في التاريخ على المستوين الجغرافي والسياسي منذ ‘مينا’ موحد القطرين، وأول بلد توحيدي
على المستوى الديني منذ ما قبل ‘اخناتون’.
وترسيخ قيم التمييز السلبي يجلب مصائب تُحوّل
المجتمع المصري إلى مجتمعات، ودولته إلى دويلات، وثقافته لثقافات، ودينه لمذاهب وطوائف.
وبذلك قويت الانعزالية، وكانت قد عادت خجولة
مع الموجة الأولى للثورة المضادة في 1971، وكشفت عن وجهها بعد حرب 1973، وبسببها حُرم
صناع نصر اكتوبر من قطف ثماره، وجلس على منصات التكريم دعاة وفقهاء الانفتاح على الغرب
والعزلة والانغلاق على الذات، وكانوا جميعا على قلب رجل واحد في التجريف والنهب ونشر
الفقر.
ولأن المرحلة الانتقالية أوشكت على الانتهاء
بعد الاستفتاء ثم إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، فإن النصيحة واجبة؛ صحيح أن
الدستور سيمر، لكن نحذر من بقاء ثقافة الإفقار والتمييز السلبي، حيث ما زالت جواز مرور
إلى الحكم، وأرى أنها واجبة المقاومة – السلمية طبعا – وتصبح ‘فرض عين’؛ ولهذا السبب
فإن ثقتي محدودة في قدرة أي حكومة جديدة بعد الاستفتاء على التصدي لمسببات الظلم الاجتماعي
والإفقار وتوابعهما، وهذه المقاومة عمل وطني وإنساني وأخلاقي مطلوب.
ويساعدنا الاقتصاد على التعرف على صاحب
المصلحة في استمرار هذا الحال، والاقتصاد الذي أعنيه هو المرتبط بتوزيع الثروة بين
من يملك ومن لا يملك؟ وبمستوى الفجوة بين المالك والمعدم، ومدى قابليتها للردم في ظل
الأوضاع والشخوص الحالية، وبطبيعة الإجراءات الحاسمة والجذرية الغائبة للقضاء على هذه
الأمراض السياسية والعلل الاقتصادية والتشوهات النفسية المتفشية.
وأذكّر المخضرمين بظواهر الثراء الكاذب
بأثر رجعي، مع ظهور النصابين والسماسرة وأصحاب السوابق وأباطرة غسيل الأموال؛ ضمن منظومة
توجيه الاقتصاد، وكثير منهم ادعى زورا أنهم من ضحايا الثورة (المقصود ثورة 1952) وأنهم
من سلالة ‘الباشوات والبكوات’ ممن صودرت أراضيهم؛ أذكر منهم رجل أعمال مصريا ادعى أنه
ابن أحد كبار ملاك الأراضي والأثرياء، ونال عطف وعون أثرياء ومسؤولين عرب وأجانب، كانوا
رافضين لثورة يوليو، وبعد أن ودع فقره كون ثروة طائلة نقلته إلى بريطانيا، ومع تضخم
ثروته أوقعه حظه العاثر في صراع مع أكبر أباطرة المال والأعمال البريطانيين، وكان يحتكر
مناجم المعادن النفيسة في افريقيا إبان حقبة الاستعمار المباشر، وضمن إمبراطوريته المالية
امتلك صحيفة كبرى، وأصدرت صحيفته كتابا، ترجمة عنوانه ‘بطل من الصفر’ وفيه وثقت حياة
الملياردير المصري المدعي، ثم كلفت فريقا تليفزيونيا؛ ليتقصى بالصوت والصورة سيرته
في الحي الشعبي الذي ولد ونشأ فيه، وقابل أقاربة ورفاقه وزملاءه، ووصل التوثيق إلى
درجة نشر نعي والده وإعلان وفاته بـ’الإهرام’، وجاء فيه أنه من رجال التعليم، ولم تكن
له علاقة لا بالأملاك ولا بالتجارة، ومعروف عن ذلك الملياردير المصري كراهيته لبلده
وشعبه وسخطه عليه، ودائم التحقير من شأن الفقراء وازدرائهم، وقد يكون محقا في كراهيته
للفقر، وهذا لا يبرر تحقيره وازدراءه للفقراء، وهنا يحضرني قول الإمام علي (رضي الله
عنه) ‘لو كان الفقر رجلا لقتلته’ وفي هذه المقولة المعنى الشافي لآثار الفقر وقهره
من ندوب وعقد تقوض النفوس الهشة.
لماذا لا نجد مسؤولا مصريا واحدا يولي اهتمامه
بالفقراء؟ يقول البعض إن هذا دور الجمعيات الأهلية وفاعلي الخير، وهذا ليس صحيحا، فالصدقة
والإحسان من أعمال الفرد إن قدر أداها وإن بخل منعها، والقضاء على الفقر بحاجة إلى
نظام إن لم يكن عادلا يكون متوازنا، دون أن يترك الحبل على الغارب للمضاربين والاحتكاريين
والسماسرة، ودون ‘نظام قانوني’ فاعل يحصل على حق المجتمع في ضرائب مستحقة، ويحمي العاملين
من سطوة المال وجبروت رجاله، ودون هذه الحماية لن تصل مصر إلى بر الأمان، ومهما كانت
بلاغة العبارات التي ترد في الدساتير، فقوة المال المنفلت وسطوة أصحابه تحيل الدساتير
إلى نصوص صماء لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به.
وإذا كانت السلطات المصرية بعد ثورتي يناير
2011 ويونيو 2013 لم تتخذ خطوات فعلية لمواجهة الفقر والإفقار؛ ففضلا عن أنه جرم يستوجب
المساءلة فإنه يمثل التزامها الصارم بقيود المؤسسات المالية والاقتصادية الصهيو غربية،
صاحبة الهيمنة على الفكر الاقتصادي الرسمي المصري، ويهدف إلى توطين الفقر، من أجل أن
تبقى مصر على حالها؛ مضطربة.. منكفئة.. غير مستقرة.. ضعيفة.. عاجزة.. مستجدية.. تابعة
ومنفلتة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق