بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

◘ النشوء والانحطاط - أمينة خيري

نظريّة النشوء والارتقاء (أو ربما هي النشوء والانحطاط) تسير على قدم وساق على متن الشاشات.المشاهد جالس على أريكته يتابع بنهم، ويشاهد بشغف، ولا يبرح مكانه إلا لوقفة مقتضبة في المطبخ، أو اضطرار طبيعي للنوم. وهذا يعني ضمان تدفق أموال الإعلانات حيناً والتأكد من تنفيذ
الأجندات والتوجّهات وغسل الأدمغة أحياناً. فالمشاهد المسكين تحوّل بفعل عصر الفضائيات إلى إناء يحوي خلاصة ما يتابع، ومن ثم الى مصدر لتوليد الأفكار المعاد تدويرها، ومنبع لتفجير المواد المراد تفجيرها، وحقل لإشعال الحرائق المبتغى إشعالها، وفي حال افتراض حسن النيات صار المشاهد أكثر معلوماتية وأعمق معرفة.

لكنّ كرة الثلج الفضائية بلغت مداها، وهي المتمثلة في كم هائل من برامج الـ«توك شو» التي أصبحت «صياح شو»، أو «تحريض شو»، أو «كراهية شو»، ومعها عدد كبير من المذيعين الذين تحوّلوا من مقدّمي برامج إلى قادة سياسيين ومصلحين اجتماعيين ونجوم اقتصاديين.
لكن نشوء الشاشات و«ارتقاء» ما فيها من مذيعين موجِهين أو موجَهين (وإن كانت النتيجة واحدة) بدأ يسفر عن نتائج غير منظورة. فبعد أشهر من انبهار المشاهدين ببرامج التسريبات، وفقرات السباب والشتم، وساعات الاتهامات المكيلة يميناً ويساراً، بدأت علامات التململ تظهر. فبعدما كانت صبيحة برامج التأجيج عبارة عن أحاديث شعبية وإعادة تدوير لكل ما ورد فيها من مكالمات مسرّبة، وفضائح أخلاقية معلنة، مع التأكيد أن المذيع الفلاني عالم ببواطن الأمور، باتت أحاديث الشعب في اليوم التالي لبرامج الشحن والتحريض تحوي بعضاً من تشكيك وكثيراً من تفنيد. وتدريجاً تحوّل مذيعو الأمس القريب من نجوم بازغة إلى غيوم آفلة.
جانب من المشاهدين ملّ الصراخ وكره التحريض، وجانب آخر أيقن أن الصراخ لم يؤدّ إلى بناء وأن التحريض لم ينجم عنه استقرار. وتظل هناك فئة عريضة من المشاهدين تعرف في قرارة نفسها أن مثل تلك البرامج الزاعقة كانت صرعة صوتية منذ بدايتها، وآن أوان أفولها والتفكير في ما يمكن متابعته على الشاشات في هذه المرحلة. وإذا كان كثيرون باتوا يلجأون هذه الآونة إلى برامج المسابقات وأفلام الحب والهيام هرباً من الواقع حيناً والواقع التلفزيوني أحياناً، فإنها مجرد استراحة المشاهد المحارب، والذي ما يلبث أن يخرج منها إلى شكل آخر من أشكال المتابعة الخبرية والتحليلات اليومية والمعلومات الوطنية والإقليمية والدولية.
القاعدة العريضة من المشاهدين في حالة حراك شديد ويسطّرون نهاية مرحلة تلفزيونية وبداية أخرى لم تحدد معالمها بعد. حتى أولئك الذين مازالوا يتابعون جرعات الكراهية الليلية والشتائم البرامجية والسفسطة التلفزيونية يفعلون ذلك بدافع العلم بالشيء وليس اكتساب المعلومات أو زيادة المعارف. فقد أثبت المشاهد أنه صاحب قدرة جبّارة على الانسحاب في الوقت المناسب. إنها استراحة المشاهد المحارب ورحلته مع النشوء والانحطاط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق