بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 20 ديسمبر 2014

ومن العلم ما قتل - وليد أبي مرشد

يبدو مستغربا أن تلجأ الولايات المتحدة، الدولة الرائدة في الالتزام بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، إلى التعذيب الجسدي كوسيلة «مقبولة» في انتزاع الاعترافات من الموقوفين السياسيين في سجونها السرية. وعزز مصداقية هذا الاستغراب ما كشفه تقرير لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي عن أن «تقنية» التعذيب المدروسة استوجبت تطويع وكالة الاستخبارات الأميركية العلم، وتحديدا علم النفس، للتوصل إلى «تقنية» تعذيب فعالة. استنادا إلى تقرير اللجنة، أخذت الوكالة باقتراح أحد محاميها الاستعانة بأستاذ في علم النفس (ذكر التقرير أن اسمه جيمس ميتشل) ليضع لها تصورا «علميا» لأجدى وسائل التعذيب القادرة على التسبب بحالة «تشتت نفسي» للمعتقل وبتقليص طاقته على مواجهة تحقيق مستجوبيه. وكشف التقرير أن من بين اقتراحات خبير علم النفس: وضع المعتقل في زنزانة بيضاء الجدران والسقف مضاءة بشكل مستدام تضج دوما بموسيقى صاخبة تحول دون استسلامه للنوم.
ربما بدت وسائل التحقيق الأميركية هذه «حضارية» بالمقارنة مع أساليب التحقيق المتبعة من ديكتاتوريات العالم الثالث، ورحومة بالمقارنة مع أسلوب «قطع الرؤوس» الذي تتبعه «داعش».
مع ذلك يظل البعد السياسي لقضية التعذيب هو الأكثر إثارة للتساؤلات خارج الولايات المتحدة.
استنادا إلى وسائل الإعلام فوجئ الرأي العام الأميركي – أو بعضه على الأقل - بما كشفه تقرير مجلس الشيوخ قبل أسبوعين عن حقبة تعذيب المعتقلين السياسيين خلال عهد الرئيس السابق جورج بوش (رغم أنها كانت «سرا شائعا»، ومعتما عليه، في كثير من عواصم العالم). ولكن، حتى مع الأخذ في الاعتبار حالة الصدمة القومية والمعنوية التي أصابت الولايات المتحدة بعد اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 يصعب الاقتناع بما ذكرته وسائل الإعلام الأميركية عن أن الـ«سي آي إيه» واصلت ممارساتها غير الإنسانية، بلا رقيب أو حسيب، حتى إلى ما بعد توقيع الرئيس باراك أوباما - يوم توليه منصبه عام 2009 - الأمر التنفيذي رقم 13491 الذي يحظر استخدام أساليب التعذيب في استجواب المعتقلين السياسيين، وإلى ما بعد مباشرة رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي، ديان فيشتاين، التحقيق فيما سمي آنذاك بـ«أساليب الاستجواب المحسنة» التي تعتمدها وكالة الاستخبارات المركزية.
أما تبرير استمرار عمليات التعذيب بأساليب وكالة الاستخبارات «التضليلية» التي أخفت أنها كانت - حسب وسائل الإعلام الأميركية - أسوأ بكثير مما أبلغته لصناع القرار في واشنطن، بما فيهم رئيس الدولة ووزيرة العدل، فيبدو عذرا أقبح من ذنب.
ورغم أن تسريبات الإعلام الأميركي توحي بأن عددا من المسؤولين الأميركيين كانوا على علم بممارسة وكالة الاستخبارات لشكل «ملطف» من أشكال التعذيب الجسدي للمعتقلين السياسيين، يبقى خبر «تجاهل» وكالة الاستخبارات المركزية تعليمات القيمين على السلطة في واشنطن، بمن فيهم رئيس البلاد، الظاهرة السياسية الأكثر إثارة للقلق على مستقبل الديمقراطية الأميركية، فالخبر، بحد ذاته، يثير أكثر من تساؤل حول صلاحيات الوكالة في حقبة ما بعد 11 سبتمبر 2001، وبالتالي فسحة «الاستقلالية» المتاحة لها عن قرار الدولة.. واستطرادا، احتمال تحولها إلى دولة «مركزية» داخل الدولة «الفيدرالية».
والمقلق في هذا السياق أن رياح «استقلال» وكالة الاستخبارات المركزية عن سلطة الإدارة الأميركية تهب من إسرائيل بالذات، فمنذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2001 ومستشارو الوكالة القانونيون يبحثون عن تبرير «قانوني» لعمليات التعذيب إلى أن عثروا على «سابقة» إسرائيلية استعان بها مستشارو الوكالة لتعميم مشروع مذكرة قانونية تستند إلى قرار أصدرته المحكمة الإسرائيلية العليا، يبرر تعذيب المعتقلين السياسيين، ويعتبره «ضروريا» للحؤول دون إلحاق «أذى جسدي وشيك» بالأفراد في حال انتفاء الوسائل الأخرى المتاحة لتحقيق ذلك.
ليس مستبعدا في دولة بمساحة الولايات المتحدة وتنوعها الديمغرافي أن يفسح نظامها الفيدرالي المجال لتجاوزات رسمية قد تكون غير واردة في الأنظمة الأكثر مركزية.
أما أن تصبح إسرائيل «ملهم» جهازها الاستخباراتي في تعامله مع المعتقلين السياسيين، فأمر لا يثير تساؤلات حول الخلفية الأخلاقية لنزعة «استقلال» وكالة الاستخبارات عن البيت الأبيض فحسب بقدر ما يثير شكوكا حول مستقبل الديمقراطية الأميركية نفسها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق