بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 6 ديسمبر 2014

◘ حسني مبارك أكثر من بريء - عبدالله بن بجاد العتيبي

صدرت محكمة الإعادة بمصر في قضية حسني مبارك الرئيس الأسبق لمصر ووزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي ومعاونيه، حكمها ببراءة الأخيرين جميعا، والحكم بعدم جواز نظر الدعوى الجنائية المقامة ضد مبارك في قضية قتل متظاهرين والذي هو
أكثر تبرئةً من حكم البراءة نفسه.

من الطبيعي أن يثير هذا الحكم جدلا، بل ولغطا أكثر منه باعتبار أن الجدل له ما يسوّغه واللغط يراد به التشويش أكثر من البحث عن الحقيقة، والجدل مهمة النخب، واللغط مهمة كل من يمتلك صوتا جهوريا أو يستهدف جماهير معينة لإثارتها وتوظيفها.
كان واضحا في المحاكمة وفي جلسة النطق بالحكم أن المحكمة تنتمي لقضاء مصر العريق، وأنها ليست معنيةً لا بالصراعات السياسية ولا بالمناكفات التيارية في مصر وفي المنطقة، بل هي معنيةٌ بالدستور والقانون فقط لا غير، وعلى الرغم من عدم التخصص في القانون، فإن العين الفاحصة تكتشف بسهولة البراعة القانونية عند قراءة التفاصيل التي أصدرتها المحكمة على شكل «تبيان» يقع في 280 صفحةً يختصر الحكم الأصلي الطويل الذي يقع في قرابة الألف وخمسمائة صفحة.
أوضح «التبيان» الزمان والمكان والقضية التي ينحصر الحكم فيها، والذي يجب النظر إليه من خلالها، أما الزمان فبضعة أيام من نهاية يناير 2011 والمكان هو بعض الميادين العامة في بضع محافظات مصريةٍ، وأما القضية فهي قتل المتظاهرين أو جرح المصابين، ولكن من يقرأ «التبيان» بتمعنٍ تتكشف له حقائق بالغة الأهمية عن تلك اللحظة التاريخية الاستثنائية في تاريخ مصر والعرب، والتي هي حقائق موثقةٌ بحكم محكمةٍ اعتمد على شهادات الشهود الفاعلين رسميا والشهود المكلفين بمهام رسمية والشهود من قلب الأحداث والشهود من ذوي القتلى والمصابين، كما اعتمد على وثائق الدولة الرسمية وعلى أدلة النيابة العامة وغيرها كثيرٌ، فهو «تبيانٌ» تاريخي يحتاج لقراءة متأنيةٍ من شتى الفئات المهتمة بتلك اللحظة التاريخية وتبعاتها الحالية.
وبناء على تفاصيل الحكم والحقائق التي أظهرها، فيمكن استعادة بعض المواقف الثقافية والتحليلات السياسية التي عاصرت تلك المرحلة، لتحليلها ومحاولة معرفة الرؤى المصيبة والرؤى التائهة، ومنها أسئلة من مثل هل كانت ثورةً أم انتفاضةً؟ وهل هي للشعب أم لجماهير منه؟ وهل تمّ توظيف تلك الجماهير لأهدافٍ لم يعوها؟ وهل تم استغلالها وامتطاؤها من قبل جماعاتٍ معروفةٍ بدقة التنظيم وصلابة الآيديولوجيا والتساهل في الدماء وفي العنف وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين؟ وهل ثمة مشاركةٌ خارجيةٌ فاعلةٌ من بعض التنظيمات الإرهابية كحركة حماس في غزة وحزب الله اللبناني؟ إن هذه الأسئلة وغيرها كثير تجد جوابها في «تبيان» المحكمة المختصر والشامل في الوقت نفسه.
إن نص «التبيان» يوضح بجلاءٍ - وعلى الرغم من عدم اختصاصه - أن المشتركين في العديد من أحداث العنف والقتل المتعمد للمتظاهرين التي شهدتها تلك المرحلة ليسوا هم المتهمين في القضية التي تنظرها المحكمة، بل هم فاعلون آخرون من داخل مصر وخارجها، ومنهم عناصر من حركة حماس الإخوانية التي تحكم قطاع غزة الفلسطيني، وعناصر من حزب الله اللبناني.
وبعيدا عن رؤى المؤامرات التي تسكن كثيرا من المحللين العرب، وانحيازا لرفض التفسير المؤامراتي لأحداث التاريخ، والتي قد يجد البعض في شهادات بعض شهود «التبيان» رافدا لها، فإن ما جرى حينذاك هو التقاء نادرٌ لعناصر تاريخية وتراكماتٍ داخلية ومصالح خارجية، كان يجب أن تكون محل العناية والدراسة والأولوية والتي أدى إهمالها لنتائج شديدة الضرر وعظيمة الأذى.
مع حرص المحكمة على التركيز على زمان ومكان وطبيعة القضية التي تنظرها، فقد جاء في التبيان حقائق كانت تمثل في تلك اللحظة التاريخية تحليلاتٍ سياسيةٍ لمن طرحها، ومن ذلك، إثبات تورط حركة حماس في غزة عسكريا وميدانيا في مصر في قضايا اقتحام السجون والعنف ضد الشعب المصري شرطةً ومواطنين، وكذلك تورط عناصر من حزب الله اللبناني في أحداث عنفٍ وإرهابٍ مشابهةٍ، وإثباتٌ تفصيلي لتخطيط جماعة الإخوان المسلمين الواعي وتنفيذها الفعلي لنشر العنف والتخريب والقتل العمد للمتظاهرين عن طريق قناصةٍ محترفين وعن طريق الدهس بالسيارات للمتظاهرين، في تفاصيل مثيرةٍ لكل حادثةٍ وأسماء المشاركين وأعدادهم وخططهم ودمويتهم.
لم يقتل مبارك المتظاهرين المصريين في الميادين العامة، بل أكثر من خططوا ونفذوا القتل في العديد من المحافظات هم من خصومه السياسيين داخليا وخارجيا، وتحديدا جماعات وحركات وتنظيمات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وقد قدّمت المحكمة التفاصيل في هذا المجال، ولكن ثمة أمورٌ أخرى لم تنظرها المحكمة بالتفاصيل لعدم الاختصاص ومنها الهجوم المنظم الذي استهدف مقار الشرطة وقتل العديد من الضباط والجنود بالرصاص الحي وبالتفجيرات وبالتخريب وإشعال النيران والحرص على زيادة الدماء المسالة لإثارة الفتنة ونشر السخط العام وترسيخ الفوضى.
ففي قضية اقتحام السفارة الأميركية على سبيل المثال، اتضح كيف دخلتها عناصر جماعة الإخوان المسلمين، وكيف سرقوا بضع عشرة سيارةً دبلوماسية وقاموا باقتحام الميادين ودهس المتظاهرين عمدا، وقل مثل هذا في غالب الأحداث المثيرة آنذاك.
إن الحقائق والوقائع والمعلومات التي نشرتها المحكمة تمكن المؤرخين والكتاب والمحللين السياسيين من استعادة تلك اللحظة وإعادة قراءتها من جديد وتقديم مراجعة لما كتبوه حينذاك إحقاقا للحق ونشرا للعدل وتجليةً للحقيقة.
سياسيا فإنه وبعد تكشف هذه الحقائق، فإن أي دعوةٍ للمصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين وهي بهذا التاريخ الحديث الدموي والذي لا يمكن فصله عن التاريخ القديم للجماعة، هي دعوةٌ تصل لدرجة الخيانة للأوطان، ذلك أنها جماعةٌ ثبت بالأدلة القاطعة أنها على استعدادٍ كاملٍ لتكرار التجربة في أي بلدٍ آخر، فهم مهيئون آيديولوجيا ومعدّون نفسيا للانتقال السريع للعنف والإرهاب، فكل أدبياتهم وكل محاضنهم التربوية وكل خطابهم وكل تنظيماتهم تدفع بهذا الاتجاه.
ثمة ملاحظةٌ جديرةٌ بالاهتمام وهي أن غالب من أيدوا تلك الانتفاضات في 2011 كانوا يلغون أي دورٍ فاعلٍ لجماعة الإخوان المسلمين. وإن أقروا به فهم يقرون به باعتباره دورا سلميا فقط، وهؤلاء الغالبية يعودون اليوم ليكرروا نفس الخطيئة باقتراح المصالحة كحلٍ.
أخيرا، فإننا لن نجد طريقا لتجاوز الوهاد التي ألقى بنا فيها «الربيع الأصولي» ما لم تعترف النخب بتضليلها للجماهير في لحظةٍ تاريخيةٍ استثنائيةٍ وأن تعترف بالتقهقر الحضاري الكبير الذي جرى بعد انتفاضات 2011.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق