بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 13 ديسمبر 2014

الأولويات بين العامة.. والمثقفين - عادل درويش

جدل يجتاح مواقع التواصل الاجتماعي وبرامج «التوك شو» المصرية (مشاهد من كوكب آخر سيعتقد أن الجنس البشري لم يخترع العجلة بعد).
الأزهر بمكانته العريقة دخل طرفا فيما عرف بـ«القلق من انتشار ظاهرة الإلحاد في مصر بعد ثورة 2011».
ما استوقفني في هذه الزوبعة الفنجانية ليس المبالغات (تهديد للمجتمع وللأمن القومي عند البعض) بقدر الفجوة بين أولويات المثقفين وبقية الشعب.
تقرير يقول: المصادر الرسمية حددت «ظاهرة» «الانتشار» المهدد لمصر بـ866 من ضمن 90 مليون شخص!!
تناقض لغوي لكلمتي «ظاهرة» و«انتشار» مع العدد، (يعلم الله كيف توصلوا للرقم)؟!
هل يحمل هؤلاء بطاقة ظاهرة على الصدر بكلمات «أنا ملحد يا أولاد الحلال»؟
هل تخصص المطاعم مثلا أماكن للمدخنين، وأخرى لغير المدخنين، وثالثة «للملحدين» تم إحصاء المترددين عليها؟
هل في الملاعب الرياضية ومحلات الأزياء غرف تغيير الملابس «نساء» و«رجال» و«ملحدون»؟
ولا نريد الاستطراد؛ فالغرض ليس السخرية؛ خاصة والاستهانة بعقول الناس والعبث بالمنطق فاجعة. وحتى لو امتلك أصحاب الـ866 تكنولوجيا خارقة مكنتهم من التعرف على أعضاء الظاهرة «واحدا واحدا..»، فهل يقبل العقل بتهديد 866 لـ90 مليونا، بطبعهم متدينون بأديان سماوية؟
وهنا نطرح سؤال الأولويات التي تشغل بال ثوار 25 يناير وميدان التحرير (فقد منحوا أنفسهم الحق الإلهي بمشروعية كهنة محاكم التفتيش في تقرير ما هي أولويات المجتمع وما يهدده).
من أكوام القمامة والذباب على مرمى حجر من أفخم مباني وأماكن لقاهرة، إلى الكلاب الضالة في الشوارع، إلى بالوعات الصرف الصحي بلا غطاء لتنكسر رقبة من يخطو فوقها، ناهيك عن الأمراض المنبعثة منها، أو حوادث الطرق واصطدام القطارات بباصات تعبر مزلقانات معطلة الأبواب تزهق الأرواح بشكل يومي.. كم عدد ضحايا هذا التقصير والإهمال مقارنة «بضحايا» الـ866؟
في كل الأديان تقريبا ستصادف مؤمنين متحمسين لنشرها يعرفون بالمبشرين (أصحاب الدعوة) يروجون لفوائدها داعين الناس لاعتناقها..
ولأنه يستحيل قياس ما هو غير موجود فبماذا سيدعو صاحب الرأس الخاوي من أي عقيدة الناس للاعتقاد به؟
لا نقصد هنا أن نهين أيا من الـ866 أو نقدمهم في ضوء سلبي، أو إيجابي، أو ندينهم، بقدر ما نريد أن نطرح السؤال على المثقفين المصريين عن أولوياتهم كأفراد وكمجتمع اليوم؟
إصلاح البنية التحتية وإنقاذ الاقتصاد وجذب السياح ومحو الأمية وتطعيم الأطفال وتقليص حجم الفصول الدراسية وصيانة الطرق ومزلقانات السكة الحديد لتقليل الحوادث المميتة، والانتباه لخطر داهم من معسكرات الإرهابيين على حدود مصر في ليبيا وأوكارهم في سيناء والحرب على الإرهاب؟ أم «التصدي» لـ«انتشار» 866 بين الـ90 مليونا؟
وللمقارنة بين أولويات أجهزة الصحافة.. أذكر حادثة قبل ثماني سنوات في أحد اللقاءات الشهرية مع رئيس الوزراء (كان وقتها توني بلير)، سألته عن إنفاق حكومته أموال الضرائب على منح ودعم لجمعيات إسلاموية (كلهم تقريبا من الباكستانيين) لم ينتخبهم أحد ولا يمثلون إلا أنفسهم.

ويبدو أن بلير خشي إغضاب بعض المسلمين من مثل هؤلاء؛ فاللقاء كان بعد هجمات الإرهابيين على المواصلات العامة التي أدت إلى 52 قتيلا. وإذا به يسألني: «أولا هل أنت مسلم؟».

فقاطعته: «يا سيادة رئيس الوزراء، أنا أتلقى أجرا لطرح الأسئلة نيابة عن القراء، وأنت تتلقى الأجر للإجابة عنها، فلماذا تعكس الآية؟ ومع الاحترام، أود أن أذكرك أن عقيدتي مسألة شخصية لا شأن لك بها».
سارع رئيس الحكومة بالاعتذار: «أنا آسف سامحني». وكرر الاعتذار مرتين أثناء اللقاء المذاع مباشرة على الهواء قائلا «أنا في غاية الأسف لم أقصد التطفل على شؤونك الشخصية».
التبادل البسيط أصبح موضوع عدة تحليلات ومقالات صحافية في الأيام التالية. خصوم بلير اتهموه بالتطفل، أما المتمسكون بحرية الصحافة وأصول المهنة فانتقدوه لانتهاكه مبدأ أساسيا بأن مهمة الصحافي طرح الأسئلة وليس الإجابة عنها، ولا يصح للمسؤول الذي يوظفه دافع الضرائب أن يتناول جوانب شخصية من حياة صحافي مهمته تقديم خدمة عامة للمواطنين. ولم يتطرق صحافي واحد في كل صحف بريطانيا إلى عقيدة الصحافي الذي طرح السؤال على رئيس الحكومة لأنها ليست جوهر المسألة.
فقط اثنان من الصحافيين العرب عاتباني شخصيا فلم يعجبهما إحراجي لرئيس الحكومة علنا في برنامج مذاع على الهواء يشاهده الملايين. ما يهمني إبرازه للقارئ هنا أن اعتذار بلير (وهو اعتذار للصحافة ومبادئها وليس لشخصي) تضمن عبارة «آسف لم أقصد التدخل في شؤونك الشخصية». مفتاح القصد هنا هو «الشؤون الشخصية». فسواء كنت من عقيدة الأغلبية في البلاد أو الأقلية أو أمر آخر، فإن الفائدة أو الضرر أو غيابهما سيؤثران عليَّ شخصيا كفرد وليس على بلير أو حكومته.
لو كنت انجررت إلى جدل شخصي حول العقيدة لكان تقصيرا بتحويل طاقات الصحيفة إلى أمور جانبية ليست بأولويات المواطنين (كيف تنفق الحكومة ضرائبهم) وهو الضرر الحقيقي.
المؤسسة السياسية الناضجة (حكومة وساسة وأحزابا وصحافة) تحدد أولوياتها بمنطق عملي – كأولويات غالبية قراء صحيفة، أو مشاهدي قناة تلفزيونية، أو أغلبية الناس حسب استطلاعات الرأي عشية الانتخابات – ولا تهدر طاقاتها في مناقشات فلسفية قاصرة على دوائر المثقفين.
في موسم أعياد الميلاد (الكريسماس) رجال الدين ينتقدون علنا تحول موسم ميلاد السيد المسيح إلى ظاهرة استهلاكية للتسوق والنهم، بالانغماس في المأكل والمشرب وبرامج اللهو بدلا من التأمل في معجزة السيدة مريم. الصحافة مقروءة ومرئية تنقل الانتقادات بأمانة، لكن لا تعطيها الأولوية على ما يمس حياة الناس اليومية (الاقتصاد والخدمات والصحة والمرافق)..
ورغم انتقاد كبير أساقفة كانتربري (كبير الكنيسة الإنجليكية - يقابله عند المصريين شيخ الأزهر أو بابا الكنيسة المرقسية) لكبريات محلات السوبر ماركت بإهدار أطنان الأطعمة، بدلا من التبرع بها للمحتاجين، فهي ليست الموضوع الرئيسي. بل مسألة عجز الحكومة عن إرغام شركات البترول بتخفيض أثمان وقود السيارات، مقابل انخفاض أسعار البترول الخام الذي وصل اليوم نصف سعره قبل شهرين.
الموضوع نفسه والمطالبة بتخفيض فواتير الكهرباء والغاز في المنازل هو السائد في «فيسبوك» ومواقع التواصل الاجتماعي البريطانية، فصناع الرأي العام يدركون الأولويات الواقعية لأغلبية الناس كأفراد، بدلا من فرض مناقشات فلسفية أثارتها نخبة المثقفين وتفرضها على عامة الناس غير الواعين «بالمسألة» أصلا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق