بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 28 أكتوبر 2013

بين الاستقرار والتغيير محمد الأشهب

أن يترشح الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لولاية رابعة، أو يقترح تعديلاً دستورياً لتمديد العهدة عامين إضافيين، أو يصار إلى انتخاب نائب للرئيس تلافياً لأي فراغ، فالأمر سيان اذ انه يفيد بأن الرئيس سيخلف نفسه، وأن إجراءات تعبيد الطريق كانت وراء التغييرات والمناقلات الوزارية والولائية ومراكز النفوذ الأمني والعسكري.
عندما عادت جبهة التحرير الوطني الجزائرية إلى الواجهة، على خلفية صراع السلطة وتصفية تركة
انفتاح لم يكتمل، نتيجة المخاوف التي استشرت حيال استئثار «جبهة الإنقاذ الإسلامية» بالحكم، قبل رياح الربيع العربي بحوالى عقدين، كان واضحاً أنها ستظل الذراع السياسية للرئاسة، تمتطيها مثل حصان طروادة، وأن التعددية التي تناسلت مع بداية الانفتاح على اقتصاد السوق وتقليص هيمنة الحزب الوحيد الحاكم كانت أشبه بتأثيث مشهد حزبي لم يخرج عن دائرة السيطرة.
لكن الجزائر لم تكن استثناء في فضائها الإقليمي. تجربة مثل هذه عاشها المغرب أيضاً، مع فارق في خيارات النظام. فالتعددية بدأت خجولة ومصطنعة، وتطلب الأمر عقوداً طويلة ليقتنع الملك الراحل الحسن الثاني بتعيين عبدالرحمن اليوسفي رئيساً للوزراء من صفوف المعارضة، عبر تجربة كان لها صداها في خلخلة المشهد السياسي، قبل أن تميل الكفة لفائدة الحزب الإسلامي «العدالة والتنمية» في ظل تعديل دستوري واسع، ولم تسلم التجربة التونسية، قبل إطاحة نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي من سيناريوات تحويل بعض الأحزاب إلى أرانب سباق نحو الرئاسة، قبل انهيار بناء كانت ركائزه هشة، غير متجذرة في التربة الديموقراطية.
في ليبيا كان الأمر مختلفاً، لا أحزاب ولا مؤسسات. وإنما سلطة حاكم واحد. ترك وراءه فراغاً مهولاً، طغت فيه لغة السلاح واستخدام العنف على منطق العقل وتدبير انتقال سلمي ينعش الآمال في إقامة دولة مؤسسات، بينما أخطر الرئيس الموريتاني الجنرال محمد ولد عبدالعزيز أن يستبدل بزته العسكرية بقفازات ناعمة لفتح صفحة انتقال عسير.
مع أن المنطقة المغاربية كانت سباقة في زلزال قلاع الحكم، غير المستند إلى شرعية ديموقراطية. فإن تباين التأويلات حول النتائج الملموسة للتغيير الذي لم يقع، كما كان يعول عليه، دفع إلى استمرار سياسة الحذر والانكفاء. وكما المغاربة يلوذون إلى ربيعهم الذي مر هادئاً بأقل الخسارة، فالجزائريون محقون في أنهم لا يرغبون في فقدان ما توفر لديهم من استقرار. وقد استطاع بوتفليقة، لولا انحسار طموحه أمام عقبة الوهن، أن يصنع ربيعاً جزائرياً على طريقته، لا يحس بأهميته إلا من اكتوى بعشرية النار التي أتت على الأخضر واليابس.
كما للاستقرار ثمنه، فالديموقراطية أيضاً تتطلب ضخ دماء جديدة في شرايين الجسد، ودور الأحزاب السياسية أن تكون رافداً يغني الممارسات، إذ تنطلق من تكريس تعددية حقيقية. لا ضرر في أن يكون بوتفليقة مرشحاً عن جبهة التحرير التي تولت التبشير بهذا التطور، بعد أن عرفت تصدعاً وانشقاقاً، لا يمكن فصله عن هاجس ترتيب أوضاع الحكم. غير أن حظوظ منافسيه يفترض أن تكون متكافئة ومتوازنة، ودلت تجربة توليه الرئاسة في الانتخابات الأولى، بعد انسحاب منافسيه أن ثمة قوى ضاغطة، خارج ميول صناديق الاقتراع، الأمر الذي لم يعد مقبولاً، أقله لناحية الإيحاء ببصيص أمل، على طريق التداول السلمي على السلطة.
لم يترسخ بعد هذا التقليد، وإلى جوار الغرب الجزائري لا تزال تونس الثورة غارقة في فك إشكالات استقالة الترويكا الحاكمة، إذ ينزع كل طرف للإفادة من الخلافات القائمة حول إقرار مسودة الدستور وصلاحيات المجلس التأسيس والقوانين الإجرائية لانتخابات الرئاسة والبرلمان إلى أقصى حد. وإذا كان هذا يحدث في بلد الثورة، فكيف سيكون الوضع في بلدان أخرى، ترى بالعين المجردة أن من يتسلم السلطة ويعتلي الواجهة، يرمي بالسلم الذي صعد به كي لا يستخدمه آخرون.
معضلة الديموقراطية حين لا تستقيم على سكة الانطلاق. فقد ظلت بلدان الشمال الإفريقي ترى نفسها أقرب إلى استيعاب نموذج التحولات التي وقعت على الضفة الشمالية للبحر المتوسط. لكن بلدان أوروبا الشرقية كانت أكثر سرعة وقدرة على التخلص من أعباء الأنظمة الشمولية الوحيدة. وكان من نتائج ذلك أن ما كانت ترقبه من دعم أوروبي، على طريق إقامة شراكات سياسية واقتصادية وثقافية لم يتحقق بنفس الوتيرة. فقد تعرضت لضغوط كونها اختارت الانفتاح على القيم الغربية، إلا في نطاق الممارسة ما زالت أسيرة عقلية تتغير ببطء شديد. لا تبدو معادلة الاختيار بين الاستقرار والتغيير على صورة التناقض الذي تصور به. فالديموقراطية تضمن الاستقرار. لأنها تصنع دولة المؤسسات، وليس الأشخاص والعقليات. وهذه لا تكفل التداول السلمي على السلطة فقط، ولكن ترسخ قيمه المبنية على ترجيح التعددية والاختلاف وروح المبادرة والإذعان إلى إرادة صناديق الاقتراع. بيد أنه في الوقت الذي زرعت مواسم الربيع بذور الأمل، آلت حقول بلدانها إلى الذبول والانحسار. وكان ذلك من بين عوامل عدة ساعدت على معاودة الانكفاء والتمسك بما هو كائن، خوفاً من المجهول. غير أن الديموقراطية تبقى في مثل خطوات الوليد التي يتعين صونها، في انتظار أن يشب ويترعرع ويصبح قادراً على المشي من دون الاتكاء على أي شيء. ولا زال هناك متسع من الوقت لاختيار الطريق التي لا تقود إلى الانسداد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق