بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

معركة العقول والقلوب - عبد المنعم سعيد


الحقيقة الأولى هي أن الحرب ضد الإرهاب والتطرف والغلو هي حرب إقليمية بامتياز؛ لأنها ممتدة باتساع الإقليم وأطرافه، ولأنها منذرة بتهديد دوله ليس فقط بالعنف، وإنما بالتقسيم والاحتراب الأهلي، وهي في تخلفها ورجعيتها تضعنا نحن العرب في ناحية وبقية العالم في ناحية أخرى. والثانية أن جبهات المواجهة متعددة مع الجماعات الإرهابية وأصولها الفكرية في جماعة الإخوان المسلمين في طبعتها القطبية، وفي المقدمة منها تأتي معركة العقول والقلوب التي من خلالها تجري عمليات التجنيد، والحرب النفسية، ورج الاعتقاد في دين متسامح ومعتدل.

هذه الحقيقة هي موضوعنا اليوم، وهي ليست جديدة على العالم العربي والإسلامي، فقد عرفها منذ ذاع فكر الخوارج، ومن بعدهم كثر المتطرفون، وحينما احتكم الناس إلى السيف تكاثرت جماعات راحت باسمنا جميعا تحارب العالم أجمع. في مصر عرفنا إرهاب التسعينات حتى جاء حادث الأقصر الذي امتد حتى قتل العزل من الجنود في سيناء أخيرا، وفي غير المحروسة لم يترك الإرهاب بلدا حتى عصف به، كله أو بعضه، وإذا ما استحكم في رقابه حتى قسمه كليا أو جزئيا كما جرى في فلسطين والسودان والعراق وأفغانستان. وعندما وصل إلى مركز التجارة العالمي في نيويورك، وأنفاق المواصلات في لندن ومدريد وباريس والمدارس في موسكو وغيرها، فإن العالم لم يعرف فارقا بيننا أصحاب الدين السمح والإنساني، وهذه المجموعات التي ضلت بنفسها ودينها.
القصة الإرهابية معروفة وقد دخلت الآن في عقدها الخامس، وأثناء هذه الفترة جرى الحديث بين عقلاء العرب والمسلمين حول سرقة الدين الإسلامي من قبل جماعات متطرفة تفسره وتعقله حسب الهوى والرغبة والمصلحة. جرت السرقة العلنية حينما بات هؤلاء ممثلين عن الدين الإسلامي في مواجهة العالم، وفي اتجاه الشباب المسلم القلق بحكم الطبيعة السنية.
كان الأمر قاسيا أن تحتار المؤسسات الإسلامية الكبرى في دول عربية مختلفة، وتقف عاجزة عن المواجهة الفكرية إما لفقر الإمكانيات، أو لفقر عمليات التحديث التي تلازم العصر، أو لأنها أحيانا استسهلت الطريق بأن تزايد على المتطرفين تطرفهم. وفي لحظة بدا فيها الإسلام معرضا لهجمة عالمية في صراع حضارات مستعر، لم يكن هناك بد أحيانا من التصعيد والمجابهة، ولكن الثمن المدفوع كان دائما بعملة عربية وإسلامية وضحايا من العرب والمسلمين.
جوهر مسألة العقول والقلوب هو عملية التجديد الديني، والتجديد ليس البدع واختلاق ما لا وجود له، وإنما استيعاب الزمان والمكان والأدوات والوسائل داخل النص المقدس. فلم يكن للإسلام أن ينتشر في كل أنحاء الأرض، ويعيش عبر كل الأزمنة، إلا لأنه كانت لديه القدرة لاستيعاب ما هو متنوع، ومتجدد، وحديث.
عبور الجسر مع الحداثة والقرن الواحد والعشرين والعولمة والمشاركة في اتخاذ القرار والمساواة بين البشر، والشراكة بينهم في عالم متعدد العقائد والمذاهب، هي المهمة الأساسية للتجديد. لقد نجح «الإخوان» في الهيمنة على ثورات «الربيع العربي» لأنهم قاموا بالخديعة الكبرى حينما لبسوا فجأة رداء الديمقراطية والتحديث وحكم الصندوق، فما إن دانت لهم الدنيا إذا بهم يخلعون الرداء ويظهر الوجه الاستبدادي صريحا ومروعا. ولكن ما جرى في مصر كان درسا مهما للجميع، وهو أن الخداع غير قابل للاستمرار، والمطلوب الآن هو ألا يتكرر مرة أخرى، وينكشف أمره حيث لا يزال موجودا. ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا جرى الاستيعاب الأصيل لحقائق العصر وما فيها. هذه مهمة العلماء ليس فقط في الدين، وإنما في الدنيا أيضا، وإذا كنا أعلم بشؤون دنيانا فعلا، فإن المهمة هي المعرفة، ونشرها بين صفوف العرب والمسلمين، وهنا يكون تجديد الدين رسالة حضارية في المقام الأول تستوعب المعارف والوقائع، وتتفهم أحوال الدنيا وما فيها.
وإذا كان التجديد الديني كما ذكرنا هو المهمة الأولى فإن التنمية هي المهمة الثانية التي لا تقل أهمية، فالتطرف الديني، والقابلية لتلقي الفكر المتطرف تزيد مع التخلف والفقر والتفاوت الاجتماعي ليس فقط بين الطبقات، وإنما بين الأقاليم.
لا أعرف الكثير عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي في الدول العربية الأخرى، ولكن الحقيقة في مصر ظاهرة نقية. فخلال موجة الإرهاب الكبرى في التسعينات من القرن الماضي فإن 97 في المائة ممن قاموا بالعمليات الإرهابية جاءوا من صعيد مصر، 77 في المائة منهم جاءوا من محافظة واحدة هي المنيا التي كانت وما زالت تشغل المركز الأخير بين المحافظات المصرية من حيث التنمية البشرية.
لم يتغير الأمر كثيرا مع القرن الجديد، فقد كان ثلثا من اعتصموا في تقاطع «رابعة العدوية» بمدينة نصر في القاهرة قادمين من ثلاث محافظات جنوبية هي المنيا وبني سويف والفيوم. وكانت الكتلة الرئيسة التي صوتت للرئيس السابق محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية المصرية منتمية إلى محافظات الصعيد، وما تبقى كانوا من كارهي الحزب الوطني.
الحقائق المرة هي أن 62 في المائة من فقراء مصر يوجدون في المحافظات الجنوبية المصرية، وفيها يوجد 66 في المائة من المعدمين.
هناك رابطة إذن بين القابلية لاعتناق أفكار متطرفة وعقيمة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعلى أي الأحوال فإن هناك حاجة ماسة لمزيد من الدراسات حول المناطق التي ينمو فيها التطرف وأفكار العنف وكراهية المجتمع والغلو في الدين، فإذا ما كانت النتيجة مشابهة للحالة المصرية فإننا نكون قد قطعنا نصف الطريق إلى العلاج. فالتنمية، سواء كانت في مصر أو أي بلد عربي آخر، هي مسألة موضوعية يمكن قياسها، ومتابعتها، ورصد أصولها وجذورها؛ وهنا لن يختلف الفقهاء والمفسرون وأصحاب الرأي، فالتجربة العالمية غنية، بل إن التجربة العربية ذاتها فيها كل الغنى للتعامل مع مناطق فقيرة.
بقي منهج ثالث للتعامل مع العقول والقلوب بعد تجديد الفكر الديني والتنمية، وهو أن يكون للمستقبل نصيب في حياتنا. لقد انقلب العالم رأسا على عقب خلال السنوات الأخيرة، وهو مستمر على هذه الحال بينما أقوم بكتابة هذا المقال، ولم يعد الأمر كما كان حيث كان التغيير يستغرق قرونا وما هو أكثر. الآن ينقلب الأمر عدة مرات أثناء حياة شخص واحد، وأصبحت الآن ظواهر فواحة بالحضور، مثل «الربيع العربي»، جزءا من الماضي، بل والتاريخ. والقول إن المستقبل يبدأ الآن ليس من قبيل المبالغة، وربما كانت واحدة من معضلات شباب اليوم أن عليهم التعامل مع مستقبل بينما لا يزالون يعيشون على الأغلب في الحاضر، أو أنهم ما زالوا يعيشون الماضي البعيد. هذا ما تحاول جماعة الإخوان المسلمين فرضه كمنهج وتفكير، أن يظل الماضي حاكما لحاضرنا، وما نحتاجه هو أن نجعل الزمن المقلا جزءا في الحاضر من العقل والقلب والضمير.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق