بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

عندما يرفع الأمنيون التونسيون شعار «ارحل»! -آمال موسى

قد يبدو للوهلة الأولى أن مجرد تفكير رجال الأمن في تونس في رفع شعار «ديقاج»، أي «ارحل»، في وجه الرؤساء الثلاثة السادة علي العريض، رئيس الحكومة، ومصطفى بن جعفر، رئيس المجلس الوطني التأسيسي، والمنصف المرزوقي، الرئيس المؤقت للجمهورية، أمر غير مسؤول ولا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال.

 ولن نجد طبعا صعوبة في فهم مثل هذا الموقف ولا في التفاعل مع مبرراته وطروحاته. ففي كل العالم، فإن مهمة رجال الأمن الانضباط ومن أهم مبادئ المؤسسات الأمنية تنفيذ الأوامر. لذلك فهو جهاز تتمثله - من التمثلات - المجتمعات والنخب في صور الانضباط والامتثال الكامل وغير المشروط للتعليمات الصادرة عن المسؤولين الكبار في الجهاز الأمني، الذين يتلقون الأوامر بدورهم من المكلف حقيبة وزارة الداخلية.

هكذا هي صورة الأمنيين في تصورات جميع الشعوب تقريبا.

ولكن احتجاج نقابات الأمن في تونس ورفع شعار «ارحل» في وجوه الرؤساء الثلاثة في ثكنة «العوينة» أخيرا أثناء تأبين رجلي أمن سقطا ضحية غدر إرهابيين، لا يمكن أن نفهمه أو نقرأه في ضوء ما هو سائد في التمثلات. فشعار «ارحل» بوصفه رسالة تمرد واحتجاج ورفض، تستدعي منا فك الشفرات والتعرف إلى سياقها ومنتجيها أيضا. فلا معنى لأي رسالة إذا ما جرى فصلها عن منتجها أو عن السياق الذي أنتجت فيه أو بالأحرى الذي أفرزها.

وكي نفهم أكثر أسباب احتقان رجال الأمن، الذي أدى إلى القيام بحركة تمرد رمزية، تبدو شاذة مقارنة بالتقاليد الأمنية المعروفة والمعهودة، لا بد من أن نضع في الاعتبار مسألتين جوهريتين:

المسألة الأولى هي أنه بعد ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011، وجدت المؤسسة الأمنية نفسها منبوذة ومحتقرة ومكروهة من فئات عريضة من الشعب التونسي ومن نخبه، والسبب بكل بساطة أنها اتهمت بأنها اليد التي ضرب بها الرئيس الأسبق بن علي وعائلته الشعب التونسي، وأنها الجهاز الذي حول تونس إلى سجن ضيق تحسب فيه الأنفاس والتحركات والكلمات، وهو ما يعني أن الفئة الأمنية في تونس تحملت كل تجاوزات النظام السابق وجرى التشكيك في دورها، ومن ثم فهي على المستوى الرمزي تعاني من جرح نفسي عميق ومن ضربة قوية موجعة ومهينة نفسيا.

ولكن قوة هذا الجهاز ورجاله ونسائه حاولت تجسيد مقولة «إن الضربة التي لا تقتل تقوي»، فكان المضي إلى الأمام من أجل بناء علاقة جديدة مع الجهاز نفسه ومع المواطنين، وهي مرحلة يمكن أن نصفها بمرحلة إثبات الذات وأخذ العبرة من الماضي كي لا تدان المؤسسة الأمنية والفاعلون فيها من جديد.

المسألة الثانية أيضا الجديرة بالاستدعاء تتمثل في أن بين المؤسسة الأمنية والنخبة الإسلامية الحاكمة ماضيا مؤلما وسلبيا، فمن ناحية يصعب على من قضى السنوات الطوال في السجن والتعذيب أن ينسى حتى ولو وصل اليوم إلى سدة الحكم، سنوات الحبس الانفرادي وقسوتها وظلمتها. ومن ناحية ثانية نشير إلى أنه على امتداد عقود الاستقلال الماضية، أي في مرحلتي الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس الأسبق بن علي، نشأت وتطورت المؤسسة الأمنية في ظل علاقة شبه صراعية مع الإسلاميين.

لذلك، فإن المسكوت عنه بالنسبة إلى الطرفين أكثر مما نتخيل. وفي هذا السياق تحديدا نفهم تلك الدعوة المتكررة إلى تحييد المؤسسة الأمنية وتعيين شخصية مستقلة ليست نهضوية، ناهيك بأن الضربة التي قصمت ظهر «النهضة» في وقت من الأوقات والمتعلقة بالهجوم الذي وقع على سفارة الولايات المتحدة في تونس قد جرى احتسابها في ميزان سيئات المؤسسة الأمنية.

إذن مفاتيح فهم المحمول الرمزي لتمرد النقابات وإقدامها في لحظة سياسية حرجة على طرد الرؤساء الثلاثة، لا نعتقد أنها في صلة بالطرح الذي يتبناه البعض الذين يفسرون حركة التمرد الرمزي بالانقلاب، فهو تفسير يحمل رد فعل فئة من الأمنيين لا طاقة لهم به، باعتبار أنه موقف جاء نتيجة عوامل وأسباب عدة ويهدف إلى تفعيل مطالبه المهملة وصوته غير المسموع. ومن هذه الأسباب أن المؤسسة الأمنية وجدت نفسها في فوهة بركان الإرهاب معزولة عن الحماية اللوجيستية والاقتصادية اللازمة. ومنذ أن بدأت العمليات الإرهابية وعدد القتلى في صفوف رجال الأمن في ارتفاع، علاوة على أن من يقتل لا توجد ضمانات قانونية واضحة ومرضية تحفظ الكرامة المادية لعائلته من بعده.
 ففي هذا الإطار يتنزل برنامج النقابات الأمنية لإصلاح المنظومة الأمنية، وأيضا مطالبتهم بدسترة الأمن الجمهوري، ولكنها مطالب لم تلقَ الأذن الرسمية الصاغية من الرؤساء الثلاثة.
 إن تضخيم الأمور في ملف التمرد الرمزي للأمنيين التونسيين لن يفيد أي طرف، فنحن بكل بساطة وجدية في نفس الوقت، أمام جهاز حساس وحيوي وأساسي، يريد أن يعيد ترتيب بيته وأوضاعه كي لا يعيش مرة أخرى وبأي شكل من الأشكال سيناريو بن علي.
الشرق الاوسط


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق