بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 28 أكتوبر 2013

هل هو ‘ربيع′ سعودي قادم؟ مطاع صفدي

من يمكنه أن يتخيّل صورة ما لخارطة السياسة العربية ومحيطها الإسلامي وعلاقات القوى بين أقطابها، فيما لو استردت السعودية استقلالها الأمني والاقتصادي، خاصة من تحت الوصاية الأمريكية. 
هل يمكن لموقفها الغاضب أخيراً من تشرد تصرفات الرئيس أوباما بين النقائض، أن يتطور من صيغة الاحتجاج الدبلوماسي الراهنة، المصدرة نحو أجواء العلاقات الخارجية للدولة إزاء أمريكا

والغرب، هل يمكنه أن يرتد إلى ذاتية هذه الدولة العربية الكبيرة، هل هي البداية الفُجائية لما سوف يُصطلح عليه باسم المراجعة الشاملة لمبادئ الاستراتيجية الموصوفة بالتقليدية، لقِدَمها واستمراريتها منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز. وهي تلك المبادئ المحافَظ عليها منذ الربع الثاني للقرن العشرين حتى أيامها الحاضرة. فمن المعروف أن هذه المبادئ تحددها ثلاثة محاور متعاضدة ومتكاملة فيما بينها هي؛ النفط والدين والأمن الوطني بل الكياني. وهذا المحور الثالث هو الضامن الرئيسي لذاته وللمحورين الآخرين. وقد افترضت الأسرة الحاكمة، مع تتابع ملوكها أنه باعتبار أن دولتها تمتلك في باطن أرضها واحداً من أهم مستودعات الطاقة العالمية، فإنها محتاجة إلى حماية أقوى قوة في هذا العالم، كأنما هذا التحالف غير المسبوق مع أمن أمريكا يرقى إلى مستوى ضرورة كونية، وليس مجرد كونه صفقة دبلوماسية.

هل حان الوقت إذن أن يُعاد النظر في هذه الضرورة عينها، هل أصبحت الدولة المفتتنة بالأموال ذات الأرقام الفلكية، قادرة على اجتراح معادلة جديدة بين أمنها الوطني وأمنها المالي، بحيث يتحول الغنى بالمال والطاقة علّة استراتيجية كافية لانقيام الدفاع الوطني بقواه الخاصة بدلاً من أن يظل تابعاً لحراسة القوى أجنبياً.

هذا التحول يتطلب كذلك وأساساً تغيراً جذرياً لمعنى الثروة الفلكية عينها، وتنميطاً مختلفاً لغايات استخدامها، بدلاً من أن تظل الثروة الوطنية أسيرة لتعاملات الاستثمار السوقي وطوارئه والهدر الحكومي أو السلطوي العبثي، هل يمكن نقل بعض أرقامها الفلكية تلك إلى خانة الاستثمار الأمني، بل القومي، بل الإنساني الأعم. فمن المعروف للقاصي والداني أن المال العربي النفطي قد صبّ فوائده التنموية والاستثمارية الهائلة في معظمها، في طاحونة الرأسمالية الأمريكية، مشاركاً في الوثبات الليبرالية (الجديدة) وفقاعاتها، كما عثراتها وسقطاتها، التي سجلت التاريخ المعاصر لهذه الرأسمالية؛ فكانت الفوائض النفطية شريكة أساسية في حركية ذلك التاريخ؛ ولقد لعبت ثروة العرب أهم أدوارها الكونية في وقف الأزمة الاقتصادية الأخطر التي داهمت الرأسمالية العالمية بدءاً من مراكزها الأمريكية ومعها الأوربية. حتى عندما اضطرت الثروة العربية إلى التضحية بخسائر مهولة في أرقامها الترليونية (النسبة الى تريليون) لم تعمد إلى تقليص دعمها لسندات الخزينة الأمريكية، لم تسحب منها أية كمية قد تهدد تغطية الدولار.
هنالك مغارةٌ من الأسرار المخيفة تحيط بهذه التغطية، وكان من أخطرها وأهمها ولا شك ما يعود حقاً إلى وقائع كل من المساندة العربية والصينية لبقاء الدولار عملة أولى لاقتصاد العالم. قد يلم بعض الخبراء الاختصاصيين بشيء من هذه الأسرار، لكن الرأي العام لا يعرف عنها شيئاً، وخاصة منه في جزئه العربي.
ما يمكن قوله سريعاً هو أن عقل السلطة السعودية يدرك ببساطة أن تمام الاستقلال السياسي لا يكتمل بدون جناحه الثاني الذي هو الاقتصاد. لكن الموقف السياسي هو الذي يمتلك إرادة المبادرة، وقد بادرت الدولة إلى إعلان خلافها مع النهج الرئاسي لأمريكا إزاء جوهر القضايا العربية المستديمة منها كفلسطين، والراهنة، والثورة السورية في نقطة المركز منها حالياً، غير أن الوسط الدبلوماسي الدولي المراقب لا يريد أن يرى في (الصدمة) السعودية أن خلافها المعلن سوف يتجاوز حدوده المقررة سلفاً. ذلك أن هذه الصدمة ربما تكون كافية لإحداث التأثر المطلوب، هنا تكمن المشكلة الأصعب، ذلك أن النهج الرئاسي الأمريكي الذي أغضب الكثيرين، وليس السعودية وحدها، يبدو أنه ليس قابلاً للتعديل، حتى عندما يتلقّى صدمات المعارضة، لا يدل (هذا النهج) على أنه مجرد تصرف شخصي مسؤول عنه الرئيس صاحبه فقط، فأمريكا اليوم هي في صدد تغيير عميق، سيتخذ صفة استراتيجية شاملة، وبالتالي فإن هذه الصدمة لن تحدث أثرها في الفريق الآخر، والمنتظر أن تحدثه في فريقها الأول.
فهل السعودية كدولة وأسرة ومجتمع قابلة حقاً لترجمة هذه الصدمة إلى ما يعادل مغزاها السياسي، فيما لو أريد لها أن تتخطى حالة رمزية، هي عبارة عن مجرد إعلان موقف كأنه ينتظر من الآخر رد فعل محدد، كان يأمله صاحب المبادرة. ولعلّه لم يكن ليقدم عليها لو لم يكن متمنياً تحقيقها. فمن سيتغير حقاً في هذه العلاقة المتوترة بين الحليفين، التي أمست تنطوي على نوع من التحدي الصامت، تمارس الصدمة من خلاله تهديداً مبطناً بإمكانية حرمان الاقتصاد الأمريكي المريض من كثير من روافده السخيّة فيما لو أوقفت السعودية شيئاً من سيل المشاريع الضخمة واللامتناهية التي يتم عقدها يومياً لمصلحة الخزينة الأمريكية وشركات القطاع الخاص؛ لو تراجعت صفقات الأسلحة وحدها قليلاً، لو عمدت الحكومة السعودية إلى تنويع حقيقي لمصادر تعاملها التسليحي والتجاري العام والاستثماري.. فما يقوله الخبراء العالميون أن الاقتصاد النفطي، والسعودي من أولوياته، أمسى رافعة أساسية لتطورات الاقتصاد العالمي، والغربي، بل الأمريكي غير أن هذا الغرب لم يُكافئ أصحاب هذا الاقتصاد الأصليين إلا بكل نكران لأبسط مصالحهم الحيوية والقومية.
ها هو الغرب، وأمريكا في مقدمته، يعدون للعرب استراتيجية نكبة عظمى، تتخطى حجم نكبة ضياع فلسطين، لتغدو نكبة للعرب جميعاً. فالعالم العربي برمته أصبح مهدداً باغتصاب الحدود الدنيا من أمنه وسلامه الاجتماعي، لدرجة أنه صار ممنوعاً على ثوراته الوطنية، كما هو الأمر بالنسبة لأنظمته المحافظة ـ أن تحقق نجاحها النسبي وتساهم في إطلاق نماذجها الاجتماعية المدنية، ممنوع على العالم العربي جملة وتفصيلاً أن ينعم بعضه أوكله بالديمقراطية.
ولذلك يجري على قدم وساق تخريب كل مقدمات هذا العصر، وهذا التخريب المنظم والممنهج أنجز حتى اليوم بعض نماذجه المريعة، فيكاد مثلاً ينجز تصحير المشرق من حضارة السياسة، عندما يصرّ على إغراق مجتمعـاته في بحران المذهبيات وأساطيرها الدموية.
حتى الثورة، وسورية الجريمة مثالها التراجيدي، لا تنجو من عفن هذه المذهبيات، لكن تظل قادرة على تنظيف أطرافها من أدران الاستنقاع حولها ما دامت قواعدها الأصلية الشبابية قادرة على التمسك بوعود ديمومتها.. فما يُحبِط مخططات التخريب المتهافتة على المنطقة، والمستهدفة لحركاتها الثورية خاصة، هو أن إرادة الاستقلال القومي العام لم يعد حكراً على الطلائع والثوار وحدهم، فلن يكون الاحتجاج السعودي سوى صرخة خلاصية قد توقظ بقية النائمين أو الغافلين، من عرب الخليج تحديداً، فلقد حان الوقت لكي يصير أغنياء العرب أقوياء بسياستهم، وليس بثرواتهم فقط، وذلك عندما يقررون أن يصبحوا هم المدراء الفعليين لاستثمارات هذه الثروات.
لم يعد هذا الهدف خيالياً، فالبعبع العالمي مستقيل من أتعاب الزعامة، وإن لم يكن قد كفّ نهائياً عن بث السموم ماوراء ظهور الشعوب الناهضة، وحفر الخنادق الموبوءة بالأفاعي أمام الجماهير الزاحفة. فالتخريب الذي ينظمه الوحش الجريح قد يكون أدهى مما كان يفعله وهو سليم، ومع ذلك وحتى لا يشطح بنا مخيالُ تفاؤل مفرط، نقول إذا كانت العزلة الأمريكية تمثل قراراً استراتيجياً كما تدل مختلف الآراء والمواقف التي تعلق عليها أمريكياً ودولياً، فإن (الصدمة) السعودية لم ترْقَ بعد إلى مستوى التحولات الاستراتيجية الفاصلة، وإن كانت مرشحة لأن تنحو هذا المنحى، إن لم يكن لدى الطرف الثاني، أمريكا، ما تقدمه من ردود فعل سوى بعض التطمينات الشكلية التي تتقنها بلاغة أوباما اللفظوية، إذا كان الأمر كذلك فهل ستكون السعودية مستعدة للمضي في خيارها الجديد إلى المدى الذي تتطلبه ظروف الخلاف المتمادية القادمة.
في كل الأحوال ما يتوقعه رأي عربي عام مستثار بالصدمة ومتلهف لما سيتبعها من إجراءات الدولة العربية على الصعيد العملي، هو مبدئياً على الأقل أن تتطور الصدمة إلى مشروع بناء استقلال بنيوي شامل، ويتناول مختلف الأصعدة للدولة والمجتمع، ويكون مشفوعاً بانتهاج الدور الريادي لاستعادة واستكمال الاستقلال السياسي لمشروع النهضة العربية المعاصرة، ذلك الدور الذي تطلْعت إليه أجيالٌ نهضوية متتابعة، منذ أن حصل خليج العرب على استقلاله الوطني الأول، وكان لها انتظارها الطويل لمساهمة الخليج الأساسية والنزيهة في بناء حضارة العرب الجديدة لهذا العصر.
ليت هذه الصدمة تفارق لحظتها الآنية لتصبح عنواناً ديمومياً لمستقبل سعودي وعربي مختلف…

القدس العربي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق