بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 26 أكتوبر 2013

«المذاهب الإسلامية»: تعصب وصراع.. أم تسامح وتعايش؟ زين العابدين الركابي

كما وعدنا في الأسبوع الماضي، نعرض اليوم لقضية كبرى وهي قضية «المذاهب الإسلامية»، وضرورة التحاور والتعايش والتسامح بين أتباعها.. وثمة مقتضيات لطرح هذه القضية وتفصيل القول فيها.. ومن هذه المقتضيات، الزمنية والموضوعية:


1) أن الكلمة التي ألقاها ولي العهد السعودي، الأمير سلمان بن عبد العزيز، نيابة عن الملك عبد الله بن عبد العزيز، أمام كبار ضيوف حج هذا العام، وأمام رؤساء وفود الحج، قد تناولت قضية المذاهب الإسلامية وأهمية التحاور السمح البنّاء بين أتباعها.

2) أن مخطط تفتيت الأمة لا ينحصر في «التفتيت الجغرافي»، بل ينتظم «التفتيت الفكري» أيضا، مستغلا بذلك خلافات «مذهبية» وتحويلها إلى فتنة وصراع يمزقان الأمة شر ممزق، على حين أن «الخلاف العلمي» المعتبر لا يقود إلى فتنة ولا إلى صراع.. والضامن في ذلك هو الإجماع على الأصول الجامعة.

ولنضرب مثلا بالمذاهب الأربعة الأكثر شهرة، والأوفر أتباعا..

إن أئمة المذاهب الأربعة منعقد إجماعهم - بلا ريب - على الأصول العظمى لديانة الإسلام.. وهذه الأصول هي:

أ) وجود الله ووحدانيته، ذاتا وأسماء وصفات.

ب) عصمة القرآن من التحريف والتبديل.

ج) عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في البلاغ.

د) ختم النبوات والرسالات بالنبي الخاتم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

هـ) أركان الإيمان الستة، وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.

و) أركان الإسلام الخمسة وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.

هذه هي العقيدة الجامعة التي أجمع عليها الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل (ويدخل في الإجماع كل من آمن بتلك الأصول من المسلمين من دون تأويل فاسد). ومن يقرأ هذه المسائل العقدية الكبرى التي حررها الأئمة أو كبار تلامذتهم يتبدى له أن «لجنة مشتركة» من هذه المذاهب قد تولت صياغة هذه العقائد والأصول.. وبديه أن هذه النخبة لم توجد!! وإنما هو التطابق العلمي. فالمصدر واحد، والمنهج هو ذات المنهج، واليقين هو ذات اليقين بالثوابت القطعية، بل إنك لتجد تطابقا في العبارة، وفي اللفظ. فعقيدة أبي حنيفة هي التي حررها إمام حنفي معروف وهو أبو جعفر الطحاوي (نسبة إلى قرية في قرى صعيد مصر اسمها طحا). في مقدمة عقيدته قال الطحاوي: «هذه عقيدة مشايخي أبي حنيفة، وأبي يوسف، والشيباني». والعقيدة ذاتها حررها القيرواني المالكي في مقدمة «الرسالة»، وهي التي حررها الشافقي وتلامذته من كبار رجال المذهب. وهي ذاتها التي كتبها الإمام أحمد بن حنبل، ونقلها اللالكائي – مثلا - في «أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة».

وحقيقة الإجماع على أصول الاعتقاد هذه اقترنت بحقيقة أخرى، وهي أن الأئمة الأربعة اختلفوا اختلافا واسعا في معظم الفروع والمسائل الفقهية. ومن هنا أُلفت كتب ذات عناوين مثل «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» لعالم شافعي من علماء القرن الثامن الهجري.. والمقصود بالرحمة - هنا - هو السعة والسماحة والتنوع المفيد للناس في حياتهم الخاصة والعامة. ولذا صدر هذا العالم الشافعي الكبير (أبو عبد الله بن عبد الرحمن) كتابه المذكور بالحديث النبوي الجليل: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». ومن نماذج الاختلاف في الفروع: الماء المستعمل في «فرض الطهارة».. فهو: طاهر في نفسه غير مطهر لغيره على المشهور من مذهب أبي حنيفة، والأصح من مذهب الشافعي وأحمد.. ومطهر عند مالك.. ونجس في رواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف. يضم إلى ذلك أن العلماء اختلفوا في تفسير الآيات القرآنية الظنية الدلالة (ولذا وجد أكثر من تفسير)، كما اختلفوا في شرح الأحاديث النبوية (ولذا وجد أكثر من شرح للسنة)، كما اختلفوا في «البيوع»، وفي التسعير، وغير ذلك.

ما هو منشأ الخلاف؟.. وما سببه:

أولا: أن من أسباب الاختلاف أن عقول الناس لا يمكن أن تضغط في عقل واحد.. وإذا تعددت العقول تعددت الاجتهادات والرؤى.

ثانيا: أن النص الديني ظني الدلالة ينفسح لأكثر من وجهة نظر (بشرط أن يكون النظر معتبرا علميا).

ثالثا: يقول الإمام الشاطبي: «إن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره. فلا بد من حدوث وقائع لا يكون منصوصا على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد. وعند ذلك: فإما أن يُترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضا اتباع للهوى، فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزوما، وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق، فإذن لا بد من الاجتهاد في كل زمان لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان».

رابعا: من مقتضيات اختلاف التنوع أن المنهج أقر هذا الاختلاف، وشرع الاحتكام إلى المرجعية عند حدوثه:

أ) «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا».

ب) «وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله».

وهاتان الآيتان كافيتان – وحدهما - لمشروعية الاختلاف الاجتهادي التنوعي المستفيض.

خامسا: تحرير العقل الإسلامي - والضمير الإسلامي - من الخوف من الوقوع في الخطأ.. وقد يتضمن هذا الخوف فضيلة ما وهي فضيلة الورع، لكن التوسع فيه يفضي إلى مخالفة هدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يعلم – بيقين - أن الخوف من الخطأ يؤدي إلى الإحجام عن الاجتهاد المطلوب، ولذا عمد عليه الصلاة والسلام إلى تحرير القادرين على الاجتهاد من هذا الخوف، بل وحفزهم على ارتياد آفاق الاجتهاد بحافز المثوبة والأجر، إذا هم لم يدركوا الصواب باجتهادهم، فقال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».

نعم. الخوف من الخطأ مانع من الاجتهاد، لكنه مانع منسوخ بصحيح السنة كما رأينا.

تلك - في إجمال واختزال - هي أسباب نشأة الخلاف الاجتهادي.

لكن الظاهرة المحيرة في تاريخنا العلمي والفكري: أن المذاهب التي كانت ثمرة حلوة للاجتهاد الرحيب الخصيب النجيب غدت ذريعة لقفل باب الاجتهاد، وذريعة للتعصب المذهبي المذموم.

فكيف وقع ذلك؟


لهذا قصة أخرى!!
الشرق الاوسط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق