بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

مصر: من العنف السياسي إلى العنف المجتمعي عبد العلي حامي الدين

الأخبار القادمة من بلاد الكنانة ومن تونس الخضراء تدعو للكثير من القلق، فهناك تخوفات حقيقية من تنامي ظاهرة العنف وسط المجتمع، وهناك مخاوف مشروعة من استنبات عناصر عنف مجتمعي يتجاوز العنف السياسي..
فمن نتائج الانقلاب العسكري في مصر أن صورة الدولة كمؤسسة ضامنة للاستقرار وللحريات داخل المجتمع بدأت تهتز لدى العديد من الأفراد، وبدا بأن منطق القوة يتجاوز منطق القانون، ولذلك لا
غرابة أن تشهد البلاد ارتفاعا من عدد الجرائم داخل المجتمع وتنامي ظاهرة العنف داخل المدارس وازدياد حدة التوتر الاجتماعي بين العديد من فئات المجتمع بالموازاة مع التوتر السياسي الذي تعرفه البلاد…
مؤسسات التنشئة الاجتماعية تبدو عاجزة عن استيعاب مختلف أشكال التوتر والعنف الذي يمكن أن يأخذ بعدا طائفيا أو مذهبيا أو دينيا، كما يمكن أن يصبح بدون معنى، أي مجرد تعبير عن نزعات إجرامية حاقدة على نفسها وحاقدة على المجتمع..
وسائل الإعلام انخرطت في بث قيم الحقد والكراهية ضد فصيل سياسي واجتماعي يعرفه المصريون منذ أكثر من ثمانين سنة، والحرب الإعلامية لم تتوقف منذ انتخاب الرئيس محمد مرسي على رأس الجمهورية، ومن الآثار الجانبية لهذه الحملة الإعلامية هو تسييد خطاب تمجيد القتل واستئصال الإسلاميين على خطاب الحوار والتفاهم والمصالحة..
المؤسسة الدينية بدورها ساهمت في تأجيج هذا المناخ، وعوض أن يلجأ شيخ الأزهر إلى تغليب صوت الحكمة والعقل، انخرط في حمأة الصراع المجتمعي وفضل خطاب تمجيد العنف وتحريض الجيش على ارتكاب مجازره ضد ‘دعاة الفتنة’ و’الخارجين على النظام’..
الأسباب العميقة لهذه التحولات السريعة ليست منفصلة عن حدث الثورة الكبيرة التي أسقطت رأس النظام المصري بعد خروج الملايين إلى الشارع حول شعار واحد: ‘إرحل’..
إن الاتفاق على هذا الشعار لم يكن يعني أبدا الاتفاق حول مشاريع سياسية لإدارة شؤون المجتمع والدولة، كما لم يكن يعني أن الثورة تؤطرها قيم متفق على مضامينها العميقة وعلى خلفياتها الفكرية والفلسفية..
لقد قامت الثورة على شعارات ولم تقم على مشاريع، وهاهو المجتمع لازال يتلمس طريقه نحو تحويل هذه الشعارات إلى قيم راسخة في الوعي الشعبي والضمير المجتمعي العميق..
إن الصراع الذي تخوضه العديد من الفئات الاجتماعية ضد الانقلاب العسكري هو ليس صراعا تكتيكيا من أجل الحكم والسلطة فقط، ولكنه يعكس، في العمق، صراعا تاريخيا من أجل ترسيخ قيم السيادة الشعبية والشرعية الانتخابية ومبادئ الديموقراطية التمثيلية كما تبلورت في الفكر الإنساني وفي التجارب الديموقراطية العريقة..
طبعا، هناك مخاوف من انزلاق هذا الصراع ليتخذ أبعادا دينية، وهناك إرادة واضحة لجر بعض الجماعات إلى مستنقع العنف الديني ليسهل الإجهاز عليها بدعوى مكافحة الإرهاب، وهي استراتيجية أصبحت مكشوفة للجميع..
لكن علينا أن ننتبه، أن استمرار المظاهرات الشعبية السلمية للمطالبة بإنهاء حكم العسكر، يساهم في تحويل طاقة المجتمع من العنف المادي إلى الاحتجاج اللفظي، ويقلل من إمكانية اللجوء إلى العنف لدى كل الغاضبين من استيلاء العسكر على السلطة..وبالتالي ينبغي العمل على الاستمرار في تصريف طاقة الشعب بطريقة إيجابية عوض الانزلاق إلى خدمة أجندات العنف التي لن تجني سوى الفشل والإحباط..
النضال من أجل ترسيخ قيم جديدة داخل المجتمع أصبح ممرا ضروريا لنجاح عملية العبور التاريخية نحو مجتمع الحرية والديموقراطية ونحو دولة المؤسسات الحقيقية التي ثار من أجلها الشعب دون أن يدرك مستلزماتها الثقافية والاجتماعية..
المؤسسة الديموقراطية ليست مفهومة بالنسبة لرجل الشارع العادي، بقدر الفهم الذي يعطيه للمؤسسة الدينية أو لمؤسسة القبيلة والعشيرة، وبإمكان الحراك الجاري حاليا، أن يسهم في تقريب المسافة بين هذه المؤسسات وفي إجراء المصالحة المطلوبة بين القيم التي تؤطر كل واحدة منها، مع العمل على ترسيخ الحدود المطلوبة بين هذه المؤسسات والتمييز بين أدوار كل واحدة منها..
فعندما ينتفض الإسلاميون ضد مواقف شيخ الأزهر، فهم في الواقع يسجلون خطوة هامة نحو فصل المؤسسة الدينية عن التدخل في شؤون الدولة، وهم بذلك يساهمون بشكل عملي في تحقيق مفهوم الدولة المدنية في وعيهم وداخل تنظيماتهم قبل أن تترسخ في سلوكهم السياسي..
إن هناك حاجة ملحة لضخ قيم جديدة داخل البنيات التقليدية التي ظلت تؤطر سلوك الأفراد والجماعات، وهو ما سيسمح به الصراع بين قيم الثورة وقيم الثورة المضادة..
إن ما جرى خلال السنتين الأخيرتين يسمح لنا بمراجعة بعض المعاني وإعادة النظر في بعض القضايا من زوايا جديدة..
فمفهوم الديموقراطية تعرض لاهتزاز كبير من طرف كبار المنظرين للديموقراطية وللدولة المدنية، الذين لم يجدوا أي تناقض مع مبادئهم وهو يضعون أيديهم في يد العسكر للإجهاز على الديموقراطية، وهو ما يعني بأن قيمة الديموقراطية لا يمكن أن تترسخ في وعي الناس بواسطة كتابات النخبة المأزومة، وإنما هي محصلة وعي اجتماعي وجماهيري ينغرس في أذهان الناس وهم يخرجون في مظاهرات يومية للمطالبة بعودة الشرعية..
إن مفهوم الديموقراطية كمفهوم إجرائي سيهتز في أذهان الإسلاميين أيضا، وسيدركون بأن موضوع الديموقراطية هو أعمق من الفوز في محطة الانتخابات وكسب أصوات الناخبين، وأن ترسيخه على الأرض يتطلب مجهودا أكبر، ليس فقط من الناحية الفكرية والنظرية، ولكن من ناحية المسلكيات السياسية وطريقة التعامل مع الآخر..
اللجوء إلى العنف لحسم الصراع بين التيارات المختلفة إيديولوجيا، أبان عن هشاشة الحوار بين التيار الإسلامي والتيار العلماني (قوميين وليبراليين) الذي دار خلال أزيد من عقدين من الزمن..
فمجرد وقوع الأزمة اندثرت قيم الحوار وتمترس كل واحد بقبيلته السياسية، وهو ما يعني أن الحوار داخل الفضاءات المغلقة ليس بديلا عن الحوار داخل الفضاء العام، بلغة مختلفة عن اللغة العالمة التي شهدتها العديد من الحوارات النخبوية المعزولة عن الجماهير..
ما يحدث حاليا من توترات سياسية واجتماعية ومن تعبيرات مجتمعية رافضة لتدخل الجيش في الحياة السياسية، هو تجاوز لمنطق النخب التي كانت تبحث عن توافقات إجرائية معزولة عن سياقاتها الاجتماعية والسياسية..
طبعا، لا ينبغي الاستهانة بعمق الخلافات الفكرية والإيديولوجية التي تخترق المجتمع، وينبغي العمل على ترسيخ قيم التعايش بين الأفكار والإيمان بقواعد التداول السلمي على السلطة كيفما كان اللون السياسي والإيديولوجي السائد، شريطة احترام حقوق الآخرين وضمان حقهم في التعبير والمشاركة..
إن ما يصطلح عليه بالديموقراطية التشاركية هو من القيم الجديدة التي أضحت ضرورية للتغطية عن الخصاص الكبير الذي عبرت عنه ديموقراطية الأغلبية..
ذلك أن من مظاهر أزمة الديموقراطية التمثيلية هو شعور الأقلية بالضياع وسط هيمنة الأغلبية وإمكانية سيطرتها على مختلف مفاصل السلطة وسد منافذ التعبير والمشاركة على المعارضة..

الجميع مطالب باستيعاب الدرس التاريخي الذي تقدمه الشعوب خلال هذه المرحلة وكل واحد مطالب’باستخراج الخلاصات التي يحتاج لها..
"القدس العربي"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق