بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

محاضرات الموانئ - سمير عطا الله


ربما كانت أكبر - أو أهم - أساطيل سفن الرحلات السياحية في العالم ذات ملكية نرويجية، ولو رفعت أعلاما متفرقة أخرى. أعلام السفن لا تعبّر مطلقا عن هويتها وملكيتها. بل إن معظم السفن تحمل أعلام بلدان لا علاقة لها بالصناعة أو التجارة أو حتى السياحة. في الثمانينات كثرت المطبوعات العربية المؤقتة في قبرص، وعندما زاد عددها على الأربعين لم أجد عنوانا أفضل من «الصحافة العربية ترفع علم قبرص».

 تقدم سفن الرحلات في البحر ما يقدّم على اليابسة: المسرح والسينما والملاهي والمطاعم وغيرها. وثمة رجل يدعى سيلفيو برلسكوني بدأ حياته بائع مكانس كهربائية متجولا، ثم مغنيا على سفينة. أتقن النرويجيون منذ القدم عِلم الملاحة، والمعاصرون أتقنوا علم السياحة. عندما تجول بك سفينة نرويجية في المتوسط (أو في المحيط الهادي أو الهندي أو الجليدي الأزرق) لن تجد فقط مغنيا ومهرجا وعملا استعراضيا، بل يسرنا أن نقدم لحضراتكم محاضرا أكاديميا مختصا. كلما وصلت السفينة إلى ميناء وقف السيد المحاضر إلى جانب اللوح – أو اللوحة - وشرح لك تاريخ البلد.
 غالبا، ليس بالطريقة المألوفة. فالمحاضر يعرف أنه ليس أمام طلاب يعدون للتخرج، وإنما أمام مجموعة من الناس، جلهم متقاعدون، بعضهم موسرون، قادمون من بلدان ومشارب مختلفة، وأحيانا متناقضة. روس وأميركيون وفرنسيون. وكدت أقول عربا أيضا، لكن العرب يستغرقون في النوم ساعة المحاضرة.
 عندما تصل «سي بورن سبيريت» إلى مياه اليونان، استعد لمحاضرة منعشة. يعرض عليك المحاضر الوقائع ويترك لك الأحكام، وما أسهلها وما أسرعها. يخبرك بأن إسبارطة التي أمضت عمرها تحارب أثينا، كانت دولة لا تفعل شيئا سوى القتال. يبلغ الولد السابعة فيُرسَل إلى المدرسة الحربية. يكبر فيرسل إلى الحرب (غالبا ضد أثينا)، وإذا هُزم فالأفضل له ألا يعود.
 الباقي في تصرفك. أنت عليك أن تستنج أن إسبارطة لم تعد في الوجود منذ دهر. والمدينة التي حلت مكانها تعيش سعيدة من بيع البرتقال والزيتون. والأخير طبقة فاخرة حقا ينصح به مع الخبز الساخن، أيا كان مخبزه. مَن تذكر من إسبارطة؟ الإجابة صعبة. من أثينا تذكر سقراط وأفلاطون وسوفوكليس. الفكر والفلسفة والمسرح وما لذ من الطعام. وتذكر الطب. وتذكر القانون والأنظمة. وتذكر الحضارة التي انتقلت أو نُقلت إلى كل ما جاء بعدها من إمبراطوريات.
 لا يتخذ المحاضر موقفا من شيء أو من أحد. يخبرك بأن الفريقين كانوا فقراء. عندما يستيقظون لا يتناولون الفطور. وجبة واحدة في اليوم، وهي من العصيدة. وقبل أن تصل السفينة إلى الإسكندرية، يقول لك، في حياد وحياء، إن كليوباترا لم تكن مصرية. كانت ابنة جنرال من مقدونيا.
"الشرق الاوسط"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق