بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 26 أكتوبر 2013

من خفايا وتعقيدات محاولات مصر لتنويع مصادر للسلاح محمد عبد الحكم دياب

الاستمرار في تقليب أوراق ملف تنويع مصادر السلاح مهمة ليست سهلة، وفحصه عملية فرضتها مستجدات العلاقة المتوترة بين واشنطن والقاهرة، بتأثير توابع ثورة 30 يونيو، ومن يعود إلى تطورات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتداعيات البدايات الأولى للحرب الباردة، وارتباطها بصعود القوة الأمريكية، ووراثتها للامبراطوريات الأوروبية القديمة؛ من
يفعل ذلك فسوف يجد بعض الشبه فيما جرى للامبراطورية العثمانية، أثناء الحرب العظمى (1914- 1918) وكانت ‘رجل أوروبا المريض’، الذي ينتظر رصاصة الرحمة، ويبدو أن الولايات المتحدة سارت على نفس الخطى مع بريطانيا وفرنسا اللتين اقتسمتا العالم تقريبا، ومثلتا لواشنطن ‘رجل الغرب المريض’، الذي عليه أن ينسحب مفسحا الطريق للقوة الأمريكية الجديدة، إلا أن الأصول الحضارية المتقاربة والثقافات والتقاليد شبه المتطابقة خففت من حدة المواجهة، فجاءت مختلفة، والتقى السيد الجديد والتابع القديم على الشراكة؛ بين شريك أضعف وأصغر قابل بالعمل في خدمة شريك أكبر وأقوى، وهكذا صيغت العلاقة بينهم.
وتنويع مصادر السلاح ما زال محكوما بضغط دوائر نفوذ الدول الكبرى ومصالحها في المنطقة، وأشار عدد من المصادر إلى وثيقة سوفييتية حملت رقم 71 وتاريخها 26 مايو 1950، وكانت رسالة من البعثة السوفييتية في تل أبيب إلى وزارة الخارجية في موسكو تكشف عن اتفاق أمريكي بريطاني فرنسي على تقسيم النفوذ في الوطن العربي وإقليم الشرق الأوسط. وإعلان تجاوز الخلافات بين الولايات المتحدة وبريطانيا، مع التركيز على المصالح المشتركة لوضع سياسة واحدة؛ لتقسيم ‘الشرق الأوسط’ إلى مناطق نفوذ أمريكية؛ تضم سوريا والسعودية ومصر والدولة الصهيونية، وبريطانية وتشمل الأردن والعراق ومنطقة قناة السويس!!، وبقي لبنان تحت النفوذ الفرنسي. وتتولى واشنطن مد الدولة الصهيونية بما يلزم من أسلحة تجنبها التعرض للخطر، على أن تتم الاستفادة من القواعد الجوية والبحرية للحصول على المعلومات عن حالة ومستوى الاستعداد العسكري للجيش الصهيوني، ومعاونته بخبراء أمريكيين يُلحقون على تشكيلاته!!.
وبعد خمس سنوات من ذلك الاتفاق إذا بوزير الخارجية البريطاني يوجه اللوم للقادة السوفييت على صفقة السلاح التشيكية مع القاهرة، واعتبارها إخلالا بموازين القوى في ‘الشرق الأوسط’، ويعني ذلك الحفاظ على التفوق العسكري للدولة الصهيونية على ما عداها في المنطقة (وثيقة سوفييتية برقم 218 في 30/ 10/ 1955).
ومنذ اليوم الاول لثورة 1952 شكل توقع الخروج البريطاني من مصر هاجسا وقلقا للمسؤولين السياسيين والعسكريين الغربيين، وفى مقدمتهم المسؤولون البريطانيون والأمريكيون والفرنسيون، وتعمق لدى تل أبيب الشعور بالخطر، وفضلا عن الدور الذي لعبه الوجود العسكري البريطانى على قناة السويس في التهيئة لقيام الدولة الصهيونية، فقد نجح في عزل شبه جزيرة سيناء عن الدلتا والوادي، وكان واضحا أن الغرب يعمل جاهدا على تثبيت الوضع على ذلك الحال.
وكان هدف إتمام فرض التسوية السياسية بين القاهرة وتل أبيب قبل جلاء الاحتلال البريطاني واضحا، وعمل تل أبيب في إفشال أي اتصالات مصرية أمريكية وإفسادها لا يتوقف، وكانت فضيحة ‘لافون’ دامغة على هذا الصعيد؛ ويذكر الوزير الأسبق سامي شرف سكرتير عبد الناصر للمعلومات أن ‘الموساد’ دفع بعملائه لتنفيذ عمليات تخريب وتفجيرات ضد مراكز ومنشآت مصرية وأمريكية وبريطانية بالقاهرة والإسكندرية؛ لتبدو وكأنها عمليات عدائية مدبرة ضد المصالح الأمريكية والبريطانية، وقد أدى اكتشاف ذلك التدبير إلى تحوله لفضيحة سارع المسؤولون الصهاينة وفي مقدمتهم دافيد بن غوريون للتخلص منها ونفي علمهم بها.في 14 يوليو 1954 تحركت شبكة ‘الموساد’ للقيام بأعمال التخريب ضد الأهداف المقصودة. ونُفذت أول عملية فى مكتب بريد بالإسكندرية، وشب حريقان في مكتبي الاستعلامات الأمريكية في القاهرة والإسكندرية، بقنابل فسفورية زرعهما مجهولون. وبعد أيام جرت محاولة حرق مركز البريد الرئيسي بميدان العتبة الخضراء بقلب القاهرة، وكان من المقرر تفجير سينما ‘ريو’ بالإسكندرية في نفس اليوم، وانكشفت العملية فى الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم؛ عن طريق انبعاث الدخان من جيب شاب يهودي اسمه ‘فيليب ناتاسون’ بتأثير شدة حرارة الجو، وكان الدخان لقنبلة فوسفورية صغيرة أثارت ذعر الشاب، وأخذ يصرخ فحاصره المارة وأبلغوا عنه الشرطة واتضح دوره بعد تفتيش منزله وضبط قنابل فسفورية حارقة من نفس النوع، وقبل أن يعترف ‘ناتاسون’ بما عنده اشتعلت النيران فى محطة السكك الحديد بالقاهرة، وشبت فى دارين للسينما يوم 23 يوليو 1954.
اعترف ‘ناتاسون’ وتم القبض على شركائه ‘روبير داسا’ و’فيكتور ليفي’، وتوالى اعتقال باقي أفراد الشبكة بالكامل، ومن بينهم ‘موسى مرزوق’.. طبيب من أصل تونسي.. يعمل في المستشفى اليهودي بالإسكندرية، و’صمويل عازار’ الأستاذ بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، و’ماكس بينيت’ من أصل مجري، و’مارسيل نينو’.. موظفة بشركة بريطانية في مصر، ونجح كل من ‘أبراهام دار’ رئيس الشبكة في الهرب خارج مصر ومعه ‘يورهام سيدنبرج’، وكان يُعرف باسم ‘بول فرانك’، وعرف في تل أبيب باسم ‘آفري إيلعاد’. وكان أفراد الشبكة قد دخلوا بجوازات سفر مزورة وبأسماء مستعارة، بعد أن خضعوا للتدريب في الدولة الصهيونية، ثم تجمعوا في باريس ودخلوا منها إلى مصر. وبدأت محاكمة الشبكة في ديسمبر 1954 أمام محكمة عسكرية علنية؛ حضرها دبلوماسيون، ومراسلون أجانب، وممثلون للجالية اليهودية، ومندوبون لمنظمة حقوق الإنسان ومنظمات مدنية أوروبية وأمريكية. وانتحر ‘ماكس بينيت’ أثناء المحاكمة، وتم تنفيذ الإعدام في كل ‘موسى ليتو مرزوق’ و’صمويل عازار’، وحُكم بالإعدام غيابيا على الهاربين، وعلى الباقين بالسجن لمدد متفاوتة. في تلك الفترة كان العمل يجري على جبهة البحث عن قوة ذات ثقل عالمي توازن بريطانيا أو فرنسا، وكانت الولايات المتحدة هي المنافس الظاهر الساعي لوراثة الإمبراطوريات القديمة، وكان الشائع أن البديل الأمريكي هو الأكثر قبولا، وكانت الفكرة عنه تحمل قدرا كبيرا من المثالية، بدعوى أنها دولة كبرى لم تتورط بعد في سياسات استعمارية، بجانب وجود عناصر مؤثرة داخل مجلس قيادة الثورة نظرت لسياسة واشنطن بأنها أقرب من غيرها إلى فهم تطلعات الشعوب العربية والأسيوية والأفريقية على أساس مبادئ وميثاق الأمم المتحدة، وكانت العلاقة مع الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت مستبعدة لدواع سياسية وعقائدية وثقافية كثيرة.
ويذكر محمد حسنين هيكل أنه بعد أسابيع قليلة من قيام ثورة 1952، وتحديدا في سبتمبر 1952، حضر للقاهرة نائب وزير الدفاع الأمريكي ‘وليام فوستر’، وتصادف حضوره مع بداية مفاوضات الجلاء المصرية البريطانية وخلال عشاء أقيم له في بيت السفير الأمريكي بالقاهرة ‘كافري’ طُرح سؤال عن إمكانية شراء مصر لسلاح أمريكي، وبدا الزائر في رده، كما يذكر هيكل، مستعدا لقبول الفكرة، وإن بدا السفير الأمريكي ‘كافري’ متحفظا!!.
واعتبر الحضور وأولهم عبد الناصر أن ‘حماسة’ نائب وزير الدفاع الأمريكي جواب كاف للتفاوض حول السلاح، إلا أن التجارب أظهرت أن ‘كافري’كان على حق، حيث يعرف أن الولايات المتحدة لن تعطي مصر شيئا بالمجان، ولا تمنح أحدا ‘دفعات على الحساب’، فهي تفضل الصفقات ومساومة الحليف البريطاني، وإن أعطت فلن تعطي سلاحاً يستخدم ضد الدولة الصهيونية، ولن تدفع إلا بقدر ما تأخذ أولاً، إذا كانت مصر تطلب شيئاً فعليها تقديم ‘عربون’، وأمريكا ليست في حاجة إلى ‘عربون’ مالي ويعنيها ‘العربون’ السياسي والإستراتيجي، ولم تكن مصر العاملة على إجلاء القوات البريطانية وقتها مستعدة لدفع ‘عربون’ من أي نوع. وتعرف ‘هيكل’ على رأي ‘كافري’ بعد اعتزاله بسنوات طويلة، وهو أنه كان على يقين بأن الولايات المتحدة لن تساعد أي بلد عربي إلا إذا وقع اتفاقية صلح نهائي مع إسرائيل!!
المهم أن عبد الناصر أيامها مال إلى تصديق ‘ويليام فوستر’ نائب وزير الدفاع، واستجاب لدعوة وجهتها وزارة الدفاع الأمريكية لزيارة وفد مصري للاطلاع على المنشآت العسكرية الأمريكية. وأعتبرتها مصر مقدمة تفتح باب التفاوض لشراء السلاح، وسافرت بعثة رأسها ‘قائد الجناح’ الطيار ‘علي صبري’، وكان وقتها مسؤولاً في المكتب العسكري لـعبد الناصر. وفشلت مهمة البعثة فشلا ذريعا. كانت واشنطن تستقبل رئيسا جديدا في البيت الأبيض؛ هو ‘الجنرال دوايت أيزنهاور’، الذي لم يكن مستعدا لبيع مصر سلاحا تقاوم به الاحتلال البريطاني، خاصة أن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل قد اتصل بـ’الجنرال أيزنهاور’ هاتفيا مشيرا إلى مهمة الوفد العسكري المصري وأنه ـ أي ‘تشرشل’ ـ لا يتصور أن صديقه ‘الجنرال أيزنهاور’؛ القائد الأعلى لقوات الحلفاء في معركة تحرير أوروبا، يقبل أن يُعطي المصريين سلاحاً يقتلون به جنوداً حاربوا تحت قيادته في الحرب ضد النازية والفاشية!!.
وأرتكزت سياسة الولايات المتحدة تحت قيادة ‘الجنرال أيزنهاور’ على عقد ‘صلح’ بين العرب والدولة الصهيونية، كمقدمة لتنفيذ مشروعاتها ‘الشرق أوسطية’ وإذا لم يتم ‘صلح’ بالإقناع، فسوف يتحقق بالقوة مهما احتاج من زمن وجهد ومال وسلاح. وقامت سياسته على مبدأ تواري الصراعات الصغيرة لإفساح الطريق لصراع أكبر مع الشيوعية الدولية، وعلى العرب أن ينسوا معاركهم مع الدولة الصهيونية ولا يفكروا في شيء اسمه تحرير فلسطين!!. وكان ذلك هو شكل مستقبل العلاقات مع العرب من منظور السياسة الأمريكية، ولذلك بدا طلب مصر كسر احتكار السلاح حرثا في البحر!..

ويبقى ملف السلاح تصنيعا وشراء متخما ومفتوحا ويحتاج إلى تقليب مزيد من أوراقه.
القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق