بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 26 أكتوبر 2013

الفلسفة في زمن الرعب اطروحتان حول السُّبات العقائدي ! خيري منصور

قبل صدور وترجمة الحوارات المعمّقة التي اجرتها جيوفانا بورادوري مع اثنين من اشهر فلاسفة عصرنا هما هابرماس ودريدا لم تكن الفلسفة كلها تعيش خارج جاذبية التاريخ، فهي منذ بواكيرها طرحت سؤالها المعرفي على التاريخ لكن في نطاق التجريد، ثم ما
لبثت ان اشتبكت مع التاريخ سواء من خلال ما قدمته من يوتوبيات او مدن فاضلة او عبر مقاربات لم يكن الشقاء البشري خارجها، لكن احداث ايلول عام 2001 في امريكا بدت للبعض كما لو انها تاريخ آخر يبدأ من ذلك الحدث بحيث يكون كل ما سبقه ينتمي الى ما قبله وكل ما اعقبه ينتسب الى ما بعده، والحقيقة ان اي حدث حتى لو كان زلزاليا لن يصبح بديلا للتاريخين الميلادي والهجري.
قبل هذا الحدث ترجل فلاسفة الى الارض الموحلة ومنهم من تورط بالتاريخ حتى فقد رأسه او احرق او نفي، لكن القرن العشرين بما اتصف به من القسوة حيث شهد حربين عالميتين خلفتا ملايين الارامل والايتام والمشردين اضافة الى جريمة هيروشيما وناكازاكي تراجع فيه التاريخ قليلا ليفسح المجال امام الفلسفة، وهناك عدة امثلة رغم تباين البيئات والاهداف والوسائل منها تجربة انطونيو غرامشي الذي اشتبك مع التاريخ وانتهى الى توصيفه الشهير عن المثقف العضوي، وبرتراند رسل الذي ترجل هو الاخر من مرتفعات التجريد الشاهقة في الفلسفة والرياضيات والمنطق الى الشارع ليقود مظاهرات شاجبة للحرب الامريكية على فيتنام وضد التسلح النووي والابادي وانشأ مؤسسة شغل سارتر لبعض الوقت رئاستها في هذا المجال …
اما سارتر نفسه فقد كان اشد اشتباكا مع التاريخ في أقسى لحظاته، عندما احتلت فرنسا وقدم نقدا لاذعا لكتاب وفلاسفة لم يشهدوا على عصورهم، ومنهم فلوبير صاحب رواية مدام بوفاري حيث قال عنه انه فوّت على نفسه فرصة تاريخية الى الأبد ولم يتوقف الامر عند اشتباك الفلسفة المجردة بالواقع الحي، فقد وقع سارتر في الأسر وهذا ما فعله البير كامو ايضا عندما اشتبك كفيلسوف مع التاريخ في رواية الطاعون التي يجمع معظم نقادها على انها تقدم المعادل الوبائي والروائي معا لاحتلال فرنسا للجزائر.
* * * * * * * *
بهذا المعنى ليست اطروحات هابرماس ودريدا هي الاولى في هذا الاشتباك، لكن شهرة الاثنين واعتبارهما من اواخر العائلة الكبرى في تاريخ الفلسفة في اوروبا هي ما اضاف الى مواقفهم من العنف بعدا استثنائيا. لهذا لا بد من اضاءة مرجعية لكل منهما، فجاك دريدا ولد في الجزائر من اسرة يهودية وطرد من المدرسة في الحرب العالمية الثانية، بعد قيام حكومة المارشال بيتان في فيشي التي اعلنها تحت مظلة الاحتلال النازي، وهناك ملاحظة بالغة الاهمية والحساسية سجلها مترجم الكتاب (خلدون النّبواني) في المقدمة هي ان دريدا شعر بالاختناق وعدم الاندماج خصوصا بعد حادث طرده من المدرسة وتجلى اثر ذلك في اسلوبه التفكيكي للذات والهوية واعتماده اسلوب التعريف بالسّلب.
والطريقة التي عبّر بها دريدا عن حدث جسيم كحدث ايلول الامريكي لا تنفصل عن سياق فكري يرى في العنف نتاجا تاريخيا أفضى اليه تراكم المكبوتات، يقول دريدا : ان حدثا كبيرا في التاريخ يتطلب اجابة فلسفية بعد مساءلة الافتراضات المفاهيمية المسبقة، بأكبر قدر من الجذرية، فالحدث من هذا الطراز تعبير عن سبات عقائدي، وهذا المصطلح (السبات العقائدي) يأخذه دريدا عن الفيلسوف كانط حين قال ان قراءته لهيوم بالتحديد أيقظته من سباته العقائدي، ويختصر هذا المصطلح الكثير مما يتداول اليوم حول الايديولوجيا الصّماء والدوغمائية والانكفاء الفكري . وفي مقدمة فضائل التنوير تحرير البشر من هذا السبات.
* * * * * * * *
تقول الكاتبة التي أجرت الحوارات ان الفلسفة منذ ارسطو هيمنت لزمن طويل على ثقافة تفصل بينها وبين التاريخ، وهناك عبارة شهيرة لأرسطو هي ان الفلسفة تدرس المبادىء العامة، اما التاريخ فيدرس الاحداث الفردية، وقد استمرت هذه الثقافة حتى القرن الثامن عشر الى ان كشفت الثورتان الفرنسية والامريكية عن ان الحاضر يمكن ان ينقطع عن الماضي جذريا، اما الفيلسوف الذي قلّص المسافة بين الفلسفة والتاريخ فهو هيغل عندما قال ان العقل نفسه محكوم بالتاريخ. ويلاحظ ان دريدا بنزعته التفكيكية لا يقبل مصطلح الارهاب او العنف كما هو، وبمعزل عن السياقات التي يرد فيها خصوصا بعد ان تولت الميديا الحديثة تسطيح المفاهيم واحيانا خلطها، فأحداث ايلول 2001 ليست زلزالية فقط بما جرى في ذلك اليوم بل بما تؤشره من ممكنات التكرار في المستقبل، حيث هناك حرب أقسى من الحرب الباردة بانتظارنا.
* * * * * * * * *
في حوار المؤلفة مع هابرماس ثمة نقاط التقاء وافتراق بين ما يراه وما يراه دريدا، لكن هابرماس اختار مثالا للارهاب كما يراه من المقاومه الفلسطينية للاحتلال، يقول ان الارهاب الفلسطيني من الطراز القديم فهو يتمحور حول القتل وابادة العدو ولا يستثني النساء والاطفال، ولا ندري كيف ورط الفيلسوف الالماني نفسه ووعيه بهذا المثال الملفّق من الدعاية الاعلامية، فمن قتلتهم اسرائيل من النساء والاطفال في سلسلة من المذابح على امتداد ستة عقود يتشكل من حاصل جمعهم هولوكوست آخر مضاد، لكن لحظة الاشتباك هنا بين الفيلسوف والتاريخ تختل لصالح التاريخ باعتباره امرا واقعا وليس سياقا زمنيا متصلا، فهل وقع هابرماس الالماني فيما لم ينزلق اليه جاك دريدا الفرنسي؟ لأسباب معروفة ومتعلقة بالذاكرة الألمانية، فالرجل الان تجاوز الثمانين ومعنى ذلك انه كان شابا في الحقبة النازية وخضع للابتزاز الهولوكوستي ذاته الذي خضع له العديد من المثقفين الاوروبيين وبالتحديد الألمان.
* * * * * * * *
هل سيكون لأحداث مطلع هذا القرن ذلك التأثير الانقلابي على الفلسفة والذي احدثه القرن الثامن عشر ؟ بحيث يتعمّق الاشتباك ويتعذّر فضّه بين الفلسفة والتاريخ ؟ ام ان مفهوم السّبات العقائدي الذي تحدّث عنه جاك دريدا ليس مسبوقا من حيث خلق المبررات والذرائع للعنف، لأن التاريخ الذي نعاه فوكوياما نشهد قيامته على نحو يعيد القوة الى بواكيرها على حساب القانون وبمعزل عن البوصلة الاخلاقية . انها حوارات تذهب باتجاه مضاد لما تسطو عليه الميديا من المصطلحات وتسطيح التاريخ بحيث يبدو مجرد تقاويم بلا مضامين.

بالتأكيد لم يكن هابرماس ودريدا آخر السلالة في الفلسفة رغم أهمية كل منهما، كما ان الحدث الذي اجتذبهما للاشتباك مع التاريخ ليس خاتمة العنف، ما دام كوكبنا يعاني من ثنائية الاحتلال والاختلال!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق