بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

قوى الثورة المضادة وسلاح ‘الدولة الفاشلة’ د. سعيد الشهابي

مصطلح ‘الدولة الفاشلة’ يستخدمه الاعلام الغربي لوصف عدد من الدول العربية والاسلامية التي تعاني من اوضاع داخلية غير مستقرة. فليبيا مثلا، كما هي مصر وتونس والعراق، تمر بوضع داخلي مضطرب كشف بعض جوانبه ما حدث مؤخرا من عمليات خطف واغتيال.
فقد اختطف رئيس الوزراء، علي زيدان، لبضع ساعات، ردا على اختطاف مواطن ليبي تعتقد امريكا انه أحد قياديي

تنظيم القاعدة وان له دورا في تفجيرات نيروبي في 1998. وما ان انتشر خبر خطف رئيس الوزراء حتى بدأت وسائل الاعلام الغربية تتحدث عن ظاهرة ‘الدولة الفاشلة’ التي لا تستطيع حكومتها حفظ الامن فيها او اقامة مجتمع مدني محكوم بالقانون وخال من الفساد المالي والاداري. واطلاق هذا الوصف فضفاض جدا، لا يستند الى معايير ثابتة، بل كثيرا ما تكون الاعتبارات السياسية عاملا لاطلاقه بهدف تحقيق اهداف متباينة. ولكن الواضح ان اغلب البلدان التي توصف بـ ‘الدولة الفاشلة’ هي تلك التي تدخل الامريكيون في شؤونها بشكل مباشر، سياسيا او عسكريا. فمن افغانستان وباكستان، الى العراقوالصومال، الى ليبيا، تبدو ظاهرة العنف السياسي مهيمنة على الوضع وحائلا دون اقامة دولة القانون والمجتمع المدني المنشود. وفي نظر اعداء السياسة الامريكية فان هذا ‘الفشل’ له معنى واحد: ان عملية التغيير التي تحدث بفعل التدخل الخارجي في اي بلد لا تتوفر على نصيب وافر من النجاح. وحتى البلدان التي لم يتدخل الامريكيون بشكل مباشر في التأثير على مسار التغيير فيها، لا تخلو من ظواهر الاضطراب السياسي وعدم الاستقرار.
ومع الاعتراف بان الثورات عادة تؤدي الى مثل هذه الظروف، فان تكرر الظاهرة له مدلولات خطيرة لأسباب عديدة: اولها انها تستخدم لاظهار فشل مشروع التغيير السياسي من الاستبداد الى الديمقراطية، ثانيها: ان الاسلاميين لا يستطيعون ادارة الدولة برغم شعاراتهم التي رفعوها منذ عقود خصوصا ‘الاسلام هو الحل’، او قدرتهم على حشد الدعم الشعبي لمشاريعهم. ثالثها: ان النظام السياسي في اي من البلدان التي شهدت تغيرات نتيجة ثورات شعبية لا يحظى بدعم الغرب خصوصا الولايات المتحدة، وان الغطاء السياسي قد رفع عن هذه الانظمة حتى تغير سياساتها وفق ما يريده الغربيون.
رابعها: تعميق الشعور باليأس لدى الجماهير المتطلعة لتغيير سياسي يعيد السلطة الى الشعب ويقيم دولة القانون، واقناعها بعدم المكابرة في المطالب، وان الافضل لها القبول بانظمة الاستبداد على اساس انها قادرة على حفظ الامن والاستقرار برغم تجاوزاتها. وهنا يتضمن الطرح الغربي مقايضة بين ‘الامن’ في ظل الاستبداد او الاضطراب في اجواء الحرية.
لا شك ان صعود ظاهرة العنف السياسي والارهاب الذي تمارسه المجموعات المتطرفة التي تدعم السعودية العديد منها، عامل في تنامي الاضطراب السياسي في البلدان المذكورة. ويقترن بالعنف ظاهرة الطائفية الدينية التي اصبحت مصدر توتر سياسي واجتماعي وامني خطيرا.
وتظهر التجربة ان هاتين الظاهرتين آفة خطيرة للمشروع الديمقراطي، فحين تنتشران تتضاءل فرص انتصار اصحاب المشروع السياسي الاسلامي الذي يحتاج لتوافق اجتماعي وديني، ولا يستطيع ان يحقق اهدافه الا ضمن اطر التغيير السلمي. وقد يصلح ‘الكفاح المسلح’ لمواجهة الاحتلال الاجنبي مثلا، او التصدي لعدوان خارجي، ولكن التطوير الاجتماعي الذي يؤدي الى اجواء الحرية والشراكة السياسية يتطلب ممارسات سلمية طويلة الامد، وقد يؤدي الاستعجال لتحقيقها الى نتائج كارثية. والملاحظ كذلك ان العنف يمارسه اعداء الحرية والديمقراطية، كما حدث في مصر حين سمح العسكريون لانفسهم باطلاق النار على نطاق واسع وقتلوا اكثر من الف شخص في يوم واحد لاسقاط الخيار الديمقراطي.
ومن يراهن على العنف او على العسكر لا يحقق المشروع الديمقراطي الذي يهدف اليه. ولذلك تسعى انظمة الاستبداد لافتعال العنف لتبرير تشبثها بالسلطة ولجوءها للقمع الجماعي. فبعض اعمال العنف في مصر الموجهة للجيش يراد منها توفير المبرر للعسكريين لقمع التظاهر والحريات العامة والتشبث بالسلطة وإجهاض المشروع الديمقراطي الذي قامت ثورة 25 يناير من اجل تحقيقه.
ونظرة سريعة لواقع الدول الاسلامية الكبرى اليوم تكشف حالة التراجع السياسي التي تشجع الغربيين على انتهاج اساليب اخرى للتأثير على تلك المجموعات. ففي باكستان مثلا اصبح الحديث عن ‘الدولة الفاشلة’ يتردد على ألسنة الاعلاميين والسياسيين على حد السواء. واتضح كذلك ان الامريكيين اصبحوا مستعدين، ربما بضغط سعودي، للتحاور مع حركة طالبان، برغم ما ارتكبته بحق الجنود الامريكيين. ويفترض ان باكستان قادرة على رسم سياستها الداخلية وفق مصالحها القومية، فهي الاكثر ‘ديمقراطية’ بين العديد من الدول الاسلامية الكبرى، وهي الدولة النووية الاسلامية الوحيدة، وهي التي احتضنت الجهاد الافغاني في الثمانينات.
ولكنها نفسها محط اقدام المجموعات المسلحة، وساعدها موقعها الاستراتيجي على الحدود مع افغانستان لاحتضان الكثير من المجموعات التي تحولت لاحقا الى بلاء لباكستان.
ولم تساعد السياسة الامريكية سواء تجاه حركة طالبان الافغانية ام تجاه المجموعات المسلحة التي استهدفت افرادها بطائرات ‘درون’ في توفير الغطاء الشرعي للمؤسسة العسكرية الباكستانية التي تحظى بنصيب الا سد من القرار السياسي. فقد نجم عن الضغط الشعبي ازاء هذه الحملات تكثف عمليات القتل عن طريق طائرات ‘درون’ وارتفاع الاصوات الشعبية التي تطالب بالوقف الفوري لتلك العمليات. فهل هذه من سمات الدولة الفاشلة؟ وماذا عن اليمن؟ لقد اصبحت قاعدة متقدمة للمجموعات الارهابية التي ما تزال متشبثة بسياسة استهداف امريكا، ولم تستدرج بعد للعنف الطائفي.
وبقراءة الاوضاع السياسية في البلدان التي حدث فيها تغيير في السنوات الاخيرة يمكن ملاحظة محاولات الغربيين واعلامهم اضعاف تجاربها بدلا من دعم التغير الديمقراطي، بل ان اغلب البلدان العربية والاسلامية التي تمارس قدرا من الانفتاح السياسي مستهدف من قبل إعلام الدولار النفطي الذي يسعى للحفاظ على الوضع الراهن وتقويض محاولات التغيير. وفي واحدة من ابشع الظواهر الانتهازية التي يمارسها الغربيون، استمر تواطؤ الغربيين مع انظمة الاستبداد في المنطقة ضد محاولات التغيير، وجاء الربيع العربي ليؤكد ذلك بشكل لا يقبل التأويل.
صحيح ان الامريكيين ترددوا كثيرا في مواقفهم ولم يستجيبوا دائما للمطالب السعودية، ولكنهم تخلوا عن المشروع الذي طالما رفعوه منذ الحرب الباردة، وهو ترويج الديمقراطية لمواجهة الانظمة الشمولية التي كانت الشيوعية تمثل موقعا متقدما في الكثير منها. السعوديون ضغطوا على اوباما لعدم السماح بسقوط مبارك، ولكن ضغط الجماهير كان اقوى، فجاء الانقلاب العسكري مؤخرا ليعيد شيئا من الاعتبار لديكتاتور مصر. وعندما بدا لفترة ان مشروع التغيير الثوري بدأ يزحف من تونس شرقا، قرر السعوديون الاستقلال بقراراتهم المتعلقة بأمنهم، خشية وصول رياح الثورة الى ديارهم. وبدأت العلاقات بين الرياض وواشنطن تصاب بالفتور بسبب تباين النظرة لما يجري من جهة، والاختلاف على اساليب التعامل معه من جهة اخرى. وقد استعادت العلاقات الا مريكية السعودية بعض عافيتها بعد ان تراجعت الثورات العربية، ولكن التقارب الايراني ـ الامريكي في الفترة الاخيرة ازعج الجانب السعودي كثيرا، فاصبح السعوديون يبحثون عن مواقف وسياسات أخرى للتعاطي مع الهيكلة الجديدة المتوقعة في المنطقة. وليس من المؤكد حتى الآن استمرار السياسة الامريكية الجديدة خصوصا مع احتدام الصراع من وراء الكواليس بين قوى التجديد والاصلاح والتغيير من جهة، والمصالح الغربية التي تمثلها انظمة الاستبداد في العالم العربي من جهة اخرى.
وهنا يبدو موقع المجموعات المسلحة في البلدان العربية والاسلامية ذا أهمية بالغة في المشروع السعودي. والغريب ان السياسة الامريكية ازاء هذه المجموعات ليست واضحة تماما. فهم يعلمون بوجود تلك المجموعات بشكل واسع في سوريا، ويعلمون ايضا ان السعودية تسلحها بشكل متواصل، وتدعمها بالدولار النفطي، ومع ذلك فقد أثر الجانب الامريكي عدم التصدي لتلك المجموعات، وغض الطرف عن التسليح السعودي لها.
ومن خلال الوقائع لم يعد خافيا ان هذه المجموعات تسعى بشكل لا يتوقف لإفشال تجارب الاسلاميين في البلدان التي يصلون فيها الى السلطة، تارة بالعنف والارهاب، واخرى ببث ثقافة تمزيق المجتمع بالدعوات الطائفية والقتل على الهوية، وثالثة بالتواطؤ مع اعداء المشروع ومشاركتهم في التآمر ضده، كما حدث في مصر عندما تحالف السلفيون مع العسكر لاسقاط حكم الاخوان.
الامريكيون من جانبهم، يساهمون في اضعاف انظمة الحكم الجديدة خصوصا اذا كانت ذات طابع اسلامي. فانتهاك سيادة البلدان بذريعة التصدي للارهاب يمثل عامل ضغط كبيرا على حكومات تلك البلدان. ففي باكستان كرر الامريكيون استخدام طائرات ‘درون’ لاستهداف العناصر المتشددة المحسوبة على تنظيم القاعدة. وبرغم احتجاج الحكومة الباكستانية مرارا على هذه العمليات التي كثيرا ما ادت لقتل المدنيين، ما تزال واشنطن تشن حملاتها ضد العناصر التي تعتبرها معادية لها.
وكان استهداف اسامة بن لادن وقتله قبل عام ونصف عملية متميزة من حيث تجاهل السيادة الباكستانية (واتهامها بعد ذلك بالتواطؤ لحماية بن لادن). وفي اليمن تتكرر عمليات استهداف عناصر القاعدة بطائرات درون (بدون طيار) وكان من بينها قتل أنور العولقي، أحد زعماء تنظيم القاعدة المطلوبين من قبل الولايات المتحدة. وهنا تحولت الحرب ضد الارهاب عبئا على الدول التي وافقت على المشاركة فيها. فالامريكيون لا يحترمون مبدأ السيادة ويتغاضون عن مفاهيم الحدود ويروجون ان الحرب ضد الارهاب تسمح لهم بتجاوز تلك الاعتبارات. اما العراق فهو الساحة الكبرى التي استدرجت العناصر المتشددة اليها من كافة انحاء العالم. وجاء ذلك ضمن استراتيجية تهدف لجمع من يسميهم الاعلام الغربي بـ ‘الجهاديين’ وتشجيعهم على السفر الى العراق والمشاركة في إذكاء النار في بلد ما برح مبتلى بسنوات من الحرب الطائفية.
وحين بدا ان ذلك البلد متجه نحو حسم المعركة لصالح الحكم المركزي والقضاء على الجيوب الارهابية، فتحت جبهة سوريا لتكون هي الاخرى مستنقعا للمجموعات المسلحة التابعة للقاعدة التي جيء بها من البلدان الاخرى.
وبذلك تمت حماية الدول الغربية ودول مجلس التعاون من بلاء الارهاب الذي اصبح عبئه واقعا على البلدين اللذين ما برحت الحرب الطاحنة تحصد ارواح مواطنيهما. والهدف محاصرة النظام السياسي واظهاره عاجزا عن توفير الامن في البلاد، وان العراق دولة فاشلة، كما هي باكستان، واليمن، وسوريا. ولو استمر حكم الاخوان في مصر لتكرر المشهد الذي يدعم مقولة الدولة الفاشلة بعد تفجير الاوضاع الامنية فيها.
وتونس هي الاخرى مستهدفة بالاضطرابات الامنية والسياسية، وهي تسير على خطى مصر بشكل واضح حتى يتم اسقاط حكم الاسلاميين. والمغرب تشهد تطورات مشابهة تتمثل في الوقت الحاضر باضعاف قبضة رئيس الوزراء، عبد الإله بن كيران على الحكم وذلك بخفض عدد الوزراء من حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي اليه، واسناد الحقائب الوزارية الرئيسية مثل الداخلية والمالية والخارجية لحلفاء القصر. المطلوب ان لا يحدث التغيير الديمقراطي في البلدان العربية، بالشكل الذي يوفر الفرصة للاسلاميين.
التغيير الهادف للتحول الديمقراطي كان عنوان الثورات العربية قبل ثلاثة اعوام، وبرغم رغبة الجماهير في هذا التحول، الا ان ظروف البلدان التي شهدت تلك التغيرات ازدادت صعوبة خصوصا في الناحيتين الامنية والاقتصادية، بشكل مفتعل من قبل قوى الثورة المضادة. وبالتالي اصبح من غير المتيسر الترويج للمشروع السياسي المستقل خصوصا اذا كان ذا طابع اسلامي.
فاذا لم تنجح محاولات الضغط السري على قيادات التيارات الاسلامية المعتدلة، فان قوى الثورة المضادة لا تتردد في اتخاذ اجراءات أشد لضمان إنهاء مسلسل التغيير السياسي في منطقة يراد لها البقاء تحت حكم الاستبداد والديكتاتورية والتبعية.


" القدس العربي"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق