بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 13 مارس 2014

الإسلام والسياسة ومعايير القياس عبد العزيز التويجري

في خضم الأحداث العاصفة والخطيرة الجارية على الصعيدين الإقليمي والدولي، تبرز قضايا فكرية في الساحة الإسلامية لا بد من التوقف عندها ومن إيلائها مقداراً كبيراً من الاهتمام. والقضية التي شغلتني هذه المرة، هي هذا المصطلح الذي أرى أنه ركب تركيباً غير سليم: «الإسلام السياسي». فقد قرأت المقال الذي كتبه الدكتور رضوان السيد في
«الشرق الأوسط»، يوم الجمعة 21/2/2014، حول مصطلح الإسلام السياسي، مبدياً فيه اعتراضه على ما قاله فضيلة الدكتور الشيخ صالح بن حميد، في ندوة عُقدت في إطار مهرجان الجنادرية، عن الإسلام السياسي والسلفية، حيث يرى بن حميد أن «هذا المصطلح لا معنى له، فقد اخترعه الأجانب للإساءة إلى الإسلام»، بينما يرى السيد أن «الخلاف حول هذا المصطلح وحول مقولة الإسلام دين ودولة ما كان يستحق النقاش لولا أن هذه المقولات تحولت إلى أحزاب وحركات وتنظيمات تقاتل وتناضل في كل الجهات فتقسم المجتمعات حتى في عباداتها وتشتت الدول وتزيل السكينة والتوادّ...».

ثم قرأت المقال الذي كتبه بن حميد ونشرته «الشرق الأوسط» في 25/2/2014، في الرد والتعقيب على مقال السيد، والذي وجدته مثالاً للمقالات الجادة التي تلتزم النزاهة والأمانة والموضوعية، مع ما يتمتع به أصحابها من غزارة علم وسلامة منطق وسعة صدر.
ولعل أول ما أودّ أن أبدأ به وأشدد عليه، أن الإسلام اسمٌ للرسالة الخاتمة للرسالات الإلهية، وهو اسمٌ مفردٌ لا تلحق به أوصاف ليست معبرة عن حقيقته، ولا يُجزّأ في موضوعات أو مجالات تخل بقدسيته وشموله. لذلك، فإن القول بوجود إسلام سياسي، أو إسلام اقتصادي، أو إسلام معتدل وآخر متطرف، أو إسلام مسالم وآخر إرهابي، أو غير ذلك من المسمّيات، هو قولٌ يَتعَارَضُ مع حقيقة الإسلام الدّين الحقّ الذي بعث الله به نبيّه محمداً، (صلّى الله عليه وسلّم)، هدايةً للعالمين ورحمةً لهم. والأصح أن تُنسب الأفكار والاجتهادات والمواقف والممارسات والأحزاب والحركات والتنظيمات إلى أصحابها، لا أن يُنسب الإسلام إليها، لأنها أفكار واجتهادات ومواقف وممارسات متعددة ومتباينة، بينما الإسلام واحد محجته بيضاء لا يزيغ عنها إلاَّ هالك، كما قال الرسول الكريم، صلوات الله وسلامه عليه.وكما هو معلوم لدى المختصين في علوم الشريعة، فإن السياسة تنظيم لشؤون الحياة، وتحقيق للعدل، وجلب للمصالح، ودرء للمفاسد. وقد جعل الفقهاء الأصوليون «درء المفاسد» مقدماً على «جلب المصالح». وفي الحالين معاً، يكون كل عمل يُقصد به تحقيق المصالح للأمة ودرءُ المفاسد عنها، وفقاً لما وضَعَهُ الشرع من ضوابط، يعدُّ، في حقيقة الأمر، عملاً يرتقي إلى درجة الواجب شرعاً، على تعدّد مجالات هذا العمل، ووفق مقتضى التطور الذي يعرفه المجتمع الإسلامي.
وها هو الإمام ابن قيم الجوزية، رحمه الله، يقول في كتابه العمدة «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «إن الشريعة مبناها وأساسُها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالح كلُّها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدلُ الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظلّه في أرضه، وحكمته الدّالةُ عليه وعلى صدق رسول الله، صـلّى اللـه عليه وسلّم، أتمَّ دلالة وأصدقها».
ويقول الفقيه الحنبلي ابن عقيل: «والسياسة ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي». وهذا يدل على عدم انغلاق مفهوم الدولة في الإسلام، فهو منفتح على كل جديد ومفيد ومحقق لمقاصد الشريعة.
وفي تراثنا الفقهي والعلمي الغنيّ التليد، كمٌّ كبيرٌ من المؤلفات التي بحثت السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، ومحصت المسائلَ المرتبطة بالحكم وبالسياسة العامة للدولة، مما خلّف لنا زاداً معرفياً غنياً جديراً بأن نعود إليه، ونستلهمه، ونستفيد منه في تأصيل العمل العام الهادف إلى إصلاح المجتمع وتقدمه وتطوره والنهوض به، أياً كانت المناهج المعتمدة فيه والطرق السالكة إليه ما لم تخرج عن سبيل الحق والعدل والفضيلة.فعلى هذا الأساس إذاً، يُنظر إلى هذه الأحزاب والحركات والتنظيمات التي ينسبها أصحابها إلى الإسلام، والتي لا يجوز أن يُنسب الإسلام إليها، ويحكم عليها بالشروط المعتمدة في المنهج الإسلامي، وما إذا كانت المقاصد المرعية هي خدمة المجتمع الإسلامي والنهوض به من النواحي كافة، وحفظ المصالح العامة، وحماية الهوية الروحية والثقافية والحضارية، وإقامة العدل، بالضوابط المحكمة وبالوسائل الحكيمة، في غير ادعاء أو شطط، أو تشدّد، أو تعسّف.

وتلك هي بعضٌ من قواعد السياسة الشرعية المستندة إلى الرؤية السياسية الواعية التي تفتح السبل المؤدية إلى إدراك المقاصد الشرعية، والمفضية إلى تحقيق المصالح المرسلة التي تجلب الخير والصلاح والفلاح والمنفعة العامة للمجتمع الإسلامي. ومن خلال هذه المنهجية الموضوعية، ننظر إلى العمل السياسي، سواء أكان قائماً على أسس إسلامية ثابتة، أم منطلقاً من مرجعية يقول أصحابها إنها إسلامية.

والقضية في عمومها، وفي البدء والختام، تتطلب معالجةً متبصرةً، تنأى عن الأحكام المسبقة، وعن الإسقاطات الفكرية، وعن التعصّب للرأي والإقصاء للمخالف.

ولذا فإنني أتفق مع فضيلة الدكتور الشيخ بن حميد في ما ذهب إليه من أن مصطلح الإسلام السياسي دخيل على الفكر الإسلامي ومشوّه للإسلام الذي هو واحد لا يتجزّأ، فما وافق صحيحَ الدين فهو منه، وما خالفه مردودٌ على من ادّعاه مهما يكن وضعه وصفته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق