بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 6 مارس 2014

◘ النجاة من الهاوية الأوكرانية -رغيد الصلح

ندما يراقب المرء تطور الأزمة الأوكرانية، يلاحظ كم تغير العالم وكم تبدلت موازين القوى الدولية بين القرنين العشرين والواحد والعشرين. لقد وقف العالم على شفير الفاجعة النووية في مطلع الستينات عندما نصب السوفيات الصواريخ النووية على مسافة قريبة من الشواطئ الجنوبية للولايات المتحدة. أما في القرن الواحد والعشرين، فقد بدا العالم وكأنه على شفير مواجهة عسكرية خطيرة بين الشرق والغرب عندما دخلت قوات روسية جزيرة القرم القريبة من روسيا والتي كانت جزءاً من أراضيها قبل أن يمنحها نيكيتا خروتشوف إلى أوكرانيا. وكما تنفس العالم الصعداء عندما توصل الزعماء الروس والأميركيون إلى تسوية لقضية نصب الصواريخ الروسية في كوبا، فإن الذين يتابعون أخبار الأزمة الأوكرانية وتطوراتها يأملون في أن يكون العالم قد خرج من دائرة الخطر. إذا حدث ذلك بالفعل، فهل هناك من ضمانة بألا تتكرر العودة إلى التلويح بالحروب العالمية؟
تتوافر هذه الضمانات إذا شعرت النخب الحاكمة في الدول الكبرى بأنها وبلادها ستصاب بخسائر فادحة إذا سلكت هذا الطريق، وإذا شعرت أيضاً بأنها لن تخسر كثيراً إذا ما تمسكت بالسلام الدولي، وإذا ما تمكنت عبره من الحفاظ على مصالحها وعلى مصالح بلادها. وفي واقعنا الراهن، فإنه ليس من مسوغ حقيقي لدولة مثل روسيا التي تحملت أعباء اقتصادية وعسكرية وبشرية في الحروب الأوروبية، والتي تحملت العبء الأكبر بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، لولوج حرب جديدة تذهب بكل ما تبقى من ثرواتها المادية والبشرية ومن أحلامها وآمالها باسترجاع مقعدها بين القوى العظمى في العالم.
ولكن روسيا التي خسرت الحرب الباردة، قد تجد نفسها في وضع يشبه وضع ألمانيا بعد خسارتها الحرب العالمية الأولى. خسرت ألمانيا قسماً من أراضيها، وكادت روسيا تفقد سيادتها ووحدتها في عهد يلتسين. وتتعرض موسكو اليوم إلى نقد قوي في الغرب، لأنها تسعى إلى استرجاع نفوذها في «الجوار الخارجي»، أو في «فضاء ما بعد السوفيات». ولا يخلو النقد من مبررات عندما تتصف هذه المساعي أحياناً بدعم نخب حاكمة فاسدة، أو أوتوقراطية في بعض دول الجوار هذه. ولكن، علينا أن نتذكر أن هذه النخب نفسها كانت تلقى احتضاناً في بعض الدول والأوساط الغربية التي منحتها أوراق اعتماد ديموقراطية لقاء ابتعادها عن موسكو. كذلك، علينا أن نتذكر أن مسوغ حماية المصالح وحقوق الأقليات الروسية والناطقة بالروسية في القرم الذي قدمته القيادة الروسية للتدخل في أوكرانيا، يبدو قابلاً للتسويق أكثر بكثير من الحجة التي تقدم بها الغرب للتدخل في شمال العراق وفي جنوب السودان.
أما الاتحاد الأوروبي، فإنه يضم أمماً ودولاً عانت من الحروب القارية والدولية، وحققت أكبر الفوائد من مرحلة السلام التي خيمت على القارة بعد تأسيس الاتحاد الأوروبي. فألمانيا لم تسترجع وحدتها ورخاءها ونظامها الديموقراطي، إلا خلال هذه الفترة. أما فرنسا فلم تنهض وتخرج من حال التخثر، إلا بعد أن أنقذها ديغول من حرب الجزائر وحروب المستعمرات، وصب اهتمامها على بناء السوق المشتركة الأوروبية وترسيخ استقلال أوروبا في السياسة الدولية. فمن الطبيعي أن يسعى الاتحاد إلى إيجاد حل سياسي للأزمة الأوكرانية كما فعل ثلاثة من وزراء الخارجية الأوروبيين عندما توصلوا إلى تفاهم مع حكومة كييف السابقة. وكذلك من الطبيعي أن تجدد المستشارة الألمانية أنغيلا مركل مساعيها بعد التغييرات التي طرأت على الموقف الأوكراني. ولكن هناك من يريدها مناسبة لتأديب أوروبا وإصلاحها، ربما لغرض آخر غير أوكزاني، وعلى الأرجح لغرض إسرائيلي يتعلق بالمقاطعة الأوروبية لصادرات المستوطنات الإسرائيلية. ومن المؤكد أن هذا الموقف سينحدر إلى مستوى توجيه تهمة التمثل بتشمبرلين الذي وقع وثيقة السلام مع هتلر إلى زعماء الاتحاد الأوروبي. جدير بالزعماء الأوروبيين ألا يأبهوا لحملات التخويف والابتزاز هذه، فالأمر لا يتعلق بحقوق الفلسطينيين، وهذا ما يسهل على الزعماء الأوروبيين - للأسف - التغاضي عنه، ولكنه يتعلق بالأوضاع الأوروبية نفسها، وهذا ما لا يمكن التغاضي عنه إكراماً لمستوطني إسرائيل.
ولا تحتاج الصين إلى الحروب والفتوحات حتى تحقق أهدافها التنموية والوطنية. ولقد ابتعدت الصين عن كل ما يستفز واشنطن ويعطي المبرر لصقور الحرب فيها للتحرش بالصين ولاستدراجها لأي شكل من أشكال الحرب الباردة. ووصل الأمر بالقيادة الصينية إلى تقديم المساندة والدعم إلى الولايات المتحدة حتى تجتاز الأزمة الاقتصادية حين انفجارها. فهناك مصالح مشتركة بين البلدين. هذا ما لا يغيب عن القيادة الصينية. لذلك، جاء موقفها من الأزمة الأوكرانية متوازناً ومستنداً إلى مبادئ دولية مقبولة. أعلنت بكين أن موقفها تجاه الأزمة يرتكز على الالتزام باستقلال الدولة وسيادتها ووحدة أراضيها وعدم تدخل الدول الأخرى في شؤونها الداخلية والسيادية. في الوقت نفسه أكدت الصين أن من الواجب أخذ الاعتبارات الثقافية والتاريخية في الاعتبار عند النظر إلى المسألة الأوكرانية.
تبقى الولايات المتحدة ودورها الحاسم في ترجيح خيارات الحرب والسلم. وفي عالم اليوم ليس هناك أيضاً مسوغ لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة لدخول حرب كبرى ضد دولة مثل روسيا. لقد وصل الناتج القومي الأميركي لعام 2011 إلى ما قيمته 16 تريليون دولار. وإذا نجحت المساعي الأميركية في إقامة شراكة أطلسية مع الاتحاد الأوروبي، فان الناتج المشترك بين الشريكين يصل إلى ما تفوق قيمته 32 تريليون دولار. بالمقارنة، فإن قيمة الناتج القومي الروسي وصلت إلى 2.3 تريليون دولار فقط. وحتى إذا تمكنت روسيا من إقناع الصين بدخول شراكة «أوراسية»، فإن قيمة الناتج المشترك للبلدين لن تتجاوز سنوياً 10 تريليونات دولار. إن هذه الأرقام تدل على أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى شن حرب على روسيا من أجل ضمان موقعها الدولي أو تقدمها الاقتصادي. هل يعني ذلك أن العالم نجا من مضاعفات الأزمة الأوكرانية؟
التاريخ يعلمنا ألا ننظر إلى هذه الأزمات على أنها عوارض مستقلة ومنفصلة عن بعضها انفصالاً تاماً. فوراء هذه العوارض نزعات مترسخة تتمثل اليوم في التعصب القومي والديني والاجتماعي. وهذه النزعات منتشرة على المستوى الدولي. إنها موجودة بقوة في الولايات المتحدة، خصوصاً في بيئة اليمين المتطرف والمحافظين الجدد. وهي موجودة في بيئات مشابهة في دول الاتحاد الأوروبي وفي الدول الأوراسية، وفي المنطقة العربية وفي مناطق عدة في آسيا وأفريقيا. ولقد تمكنت هذه النزعات من جر العالم إلى كوارث كبرى. وكما فعلت في الماضي، فإنها قادرة على القيام بالدور نفسه حالياً، بعد أن برهنت كفاءة عالية في تحريض الأمم والجماعات والكيانات على السير على طريق يرضي هذه النزعات ويحقق أهدافها القريبة والبعيدة. ولكن التغلب على هذه النزعات ليس مستحيلاً. إنه صعب ولا شك، ولكنه ممكن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق