بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 مارس 2014

قراءة في دليل كيري للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية - ماجد عزام

وصف وزير الخارجية الأميركي جون كيري أثناء زيارته الأخيرة للمنطقة في كانون الثاني (يناير) الماضي اتفاق الإطار الذي يعمل عليه بأنه سيكون بمثابة دليل للمفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية الهادفة إلى التوصل إلى اتفاق سلام نهائي بين الجانبين. وقد استغل المناسبة عينها للتشديد على أنه يعمل مع الرئيس باراك أوباما كي
يأتي الاتفاق عادلاً ومتوازناً كونه يمثل ضرورة حيوية ومهمة للمصالح الأميركية، كما لاستقرار المنطقة.
ومن الصعوبة بمكان التشكيك في حسن نيات كيري أخلاقياً أو سياسياً، وجديته في السعي نحو اتفاق سلام نهائي. إلا أن المشكلة تكمن في مقاربته المنهجية الساذجة والسطحية للملف، كما في الاقتراحات والحلول التي يعرضها لجسر الهوة بين الجانبين والتي لا تتناقض فقط مع الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وإنما أيضاً مع مبادئ العدل والتوازن التي يطمح الى تجسيدها في الاتفاق العتيد.
منهجياً، يبدو وزير الخارجية الأميركي مستلباً بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة كعنوان للحل النهائي للصراع، بغض النظر عن طبيعة هذه الدولة ومضمونها، حتى لو كانت من دون عاصمة وحدود وسلطات وسيادة فعلية، على ما قال السيد ياسر عبد ربه لـ «الحياة» الشهر الماضي. ويبدو السيد كيري هنا وكأنه منحاز الى الشكل على حساب المضمون.
لا بد من الانتباه إلى حقيقة أن كيري يكرر في الملف الفلسطيني الخطأ المنهجي نفسه الذي اقترفه في الملفين السورى والإيراني. ففي الأول كان اهتمامه منصباً على التوصل الى اتفاق يكفل تجريد نظام الأسد من ترسانته الكيماوية من دون الاهتمام بالأبعاد الأخرى، ما أضفى شرعية على نظام ارتكب وما زال يرتكب، وبشكل منهجي، جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق شعبه، ومن دون الاكتراث لتداعياتها. وفي الملف الإيراني تبنى المقاربة المنهجية الخاطئة نفسها، حيث التركيز على فكرة تفكيك البعد العسكري للمشروع النووي من دون إبداء الاهتمام الكافي بتزايد قوة النظام السياسية والاقتصادية بعد رفع العقوبات عنه ولو بشكل تدريجي، ومن دون الاكتراث بسياساته الكارثية والتدميرية في المنطقة، والتحسب لإمكانية استغلال الاتفاق للمضي قدماً في النهج الدموي السابق الذي لا يبدو أن حسن روحاني قادر على تغييره أقله في المرحلة الراهنة.
إذاً، من الواضح أن الخطأ لا يقتصر على المقاربة المنهجية الخاطئة، وإنما أيضاً على المقاربات التكتيكية والاقتراحات التى يعتمدها وزير الخارجية الأميركية لجسر الهوة والتقريب بين المواقف المتباعدة للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
بناء عليه، انطلق كيري من الصفر متجاهلاً معظم ما جرى منذ انطلاق عملية التسوية قبل عقدين، وتم التنكر بخاصة للتنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية، إن في ما يتعلق بالاعتراف بإسرائيل، من دون اعتراف مقابل بالدولة الفلسطينية، أو بالقبول بإقامة دولة ضمن حدود حزيران (يونيو) 67، أي على 22 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية، والتخلي، بالتالي، عن 78 في المئة منها للدولة العبرية.
معتبراً التنازلات السابقة بمثابة تحصيل حاصل، انطلق كيري إلى مساومات جديدة تنطلق من الوقائع الحالية التي فرضتها إسرائيل على الأرض بقوة السلاح والاحتلال، وهكذا يجرى الحديث عن تبادل أراض وعن بقاء ليس فقط الكتل الاستيطانية الكبرى التي تضخمت وتوسعت، وإنما حتى 80 في المئة من المستوطنين في مستوطناتهم غير الشرعية، ما يمثل جريمة حرب وفق فتوى محكمة العدل العليا، فيما يجرى الحديث أيضاً عن عاصمة فلسطينية في القدس الشرقية. وبالنسبة الى كيري، يبدو الهدف أن تكون الدولة على مساحة مساوية تماماً لتلك التي احتلت عام 67، حتى لو احتفظت إسرائيل بالسيطرة على المناطق الاستراتيجية والتاريخية ومنابع المياه ومصادر الثروة الطبيعية، وحتى لو كانت الدولة غير قادرة على البقاء وخاضعة تماماً للهيمنة الإسرائيلية سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
في موضوع الأمن، وإن بدا كيري عادلاً متوازناً وموضوعياً، إلا أن هذا جاء شكلياً فقط. أما في المضمون فبدا أكثر انحيازاً الى وجهة النظر الإسرائيلية، ليس فقط لجهة بقاء القوات الإسرائيلية في غور الأردن لسنوات طويلة، وإنما في السيطرة على، أو مراقبة المعابر والأجواء الفلسطينية، كما موجات البثّ الكهرومغناطيسي في سماء الدولة العتيدة. عموماً، لم ينتبه الوزير جيداً إلى حاجة الفلسطينيين أيضاً الى الأمن. وأعتقد أن المعادلة التي يُعمل عليها الآن هي الدولة للفلسطينيين مقابل الأمن للإسرائيليين، وهي المعادلة المتماهية مع حديث نتانياهو واليمين الإسرائيلي عن الأرض مقابل الأمن، وليس الأرض مقابل السلام العادل والشامل، كما جرى التوافق في مؤتمر مدريد التأسيسي قبل أكثر من عشرين عاماً.
إلى ذلك، وقع كيري في الفخ الإسرائيلي الذي نصبه نتانياهو عبر تمسكه بشرط اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولةً يهودية، وهذا الشرط هدف إلى عرقلة المفاوضات وإفشالها أو في الحد الأدنى إفراغها من محتواها، بخاصة في ملفي اللاجئين والقدس. وقد تقبّله كيري بصدر رحب وكأمر مفروغ منه وبغض النظر عن تناقضاته الصارخة مع المواثيق والشرعية الدولية، وصولاً إلى ابتداع التخريجات لقبوله فلسطينياً، ولو بشكل غير مباشر عبر الجامعة العربية، كما قال السيد عزام الأحمد لتلفزيون فلسطين (الأحد 23 شباط - فبراير الماضي). وقبل ذلك وبعده، مارس كيري مقارباته المنهجية والتكتيكية وفقاً لمبدأ رئيسه أوباما القاضي بالانسحاب من المنطقة والحفاظ على أدنى قدر من الانخراط في أزماتها ومشكلاتها والجبن عن استخدام القوة بأي حال من الأحوال، بخاصة في مواجهة الطرف القوى والباغي. وطبيعيٌ أن ما لم يفعله في مواجهة الخصوم أو من يفترض أنهم كذلك، لن يقدم عليه في مواجهة الحلفاء أو بالأحرى الحليف الرئيس في المنطقة، والاستعاضة بنصح وتحذير تل أبيب من مغبة عدم التوصل إلى حل نهائي للصراع في فلسطين وفق الظروف الحالية التي تكاد تعتبر مثالية للدولة العبرية. وهي لغة لا يستوعبها نتانياهو ورفاقه كونهم توصلوا إلى استنتاج مضاد مفاده أن لا شيء يجبرهم على تقديم تنازلات للفلسطينيين، وأنهم قادرون على تحمل ثمن إدارة الصراع باعتبار أن كلفة إدارته أقل بكثير من كلفة حلّه.
على رغم نياته الطيبة، فالمقاربات المنهجية والخاطئة لجون كيري ستحول بالتأكيد دون نجاحه في التوصل إلى اتفاق سلام نهائي عادل ومتوازن، وحتى إذا حصل، فإن هذا لن يكون سوى اتفاق هش غير قابل للحياة أو الصمود على المدى الطويل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق