بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 مارس 2014

نجاح الرأسمالية سبب أزماتها وإخفاقاتها غسان الإمام

أقف على ناصية الشارع، في الضاحية الباريسية التي أسكنها، منتظرا إشارة المرور. يغلب الأخضر الأحمر، فتتدفق السيارات القادمة من الضواحي البعيدة، مسرعة باتجاه العاصمة لتحتلها. أحدِّق بالغزاة راكبي السيارات. فأجد راكبا واحدا، في كل سيارة، هو سائقها!
توَّجت الرأسمالية السيارة الصغيرة ملكة لحرية أوروبا. وجعلت من البندقية ملكة جمال أميركا. عندما يأتي المساء، سوف تعود من باريس مليون سيارة إلى قرى الريف الباريسي، حيث تنام في الليل. فتستريح. لتعاود غزو المدينة في الصباح، من الجهات الأربع.
لماذا هذا الكمُّ الهائل من السيارات؟! لأن الرأسمالية حريصة على إتاحة سيارة للزوجة المصون. وسيارة للابنة الجامعية، لتشاركا في غزو المدينة، بلا محرم إلى جانبهما يحميهما.
أزيح غبار السيارات الأسود المتسلل إلى مكتبي. أقلِّب كتابا مصوَّرا عن حياة باريس قبل أكثر من مائة سنة. كم كانت هذه المدينة جميلة. هادئة. كم كانت رومانسية، بسيارة أو سيارتين فقط تتهاديان بميدان الكونكورد الفسيح، بلا ضجيج. وبلا زحام يخنقان المسلَّة الفرعونية الذهبية، بلهاث سيارات اليوم الذي يدمر البيئة. الرئة. البراءة.
في يومي «الويك إند»، أتاحت الحكومة الفرنسية الباصات العامة. والقطارات. والترام فوق الأرض. وقطارات الأنفاق تحت الأرض، مجانا، لعل الفرنسيين يستخدمونها بدلا من سياراتهم الخاصة. فيريحون العاصمة من ارتفاع معدل التلوث.
كانت الشيوعية مُحِقَّة عندما اعتمدت الأتوبيس، بدلا من التاكسي واسطة للنقل. لكن الشيوعية انهارت عندما اختفى الثوار. وركب الحكام الجدد من رجال البيروقراط والتكنوقراط التاكسي الفاخر. فلم يحققوا قط حلم الرفيق خروشوف بدفن الرأسمالية.
لماذا لا تدفن أوروبا السيارة الصغيرة الخبيثة؟ كم هذا السؤال بسيط وساذج! مئات ألوف العمال يعملون في صنع هذه السيارة. لو تعطلوا. وخرجوا من المصانع إلى الشارع، لانهارت الرأسمالية. النظام الرأسمالي يعرف كيف يُداري بنجاح أزماته وسوءاته. وكيف يتغلب على إخفاقاته.
هل الرأسمالية هي الآيديولوجيا الأفضل؟ لا. لكن لأن الآيديولوجيات الأخرى بدت أسوأ. هل الإسلام نظام بديل؟ الاقتصاد الإسلامي نظام رأسمالي. يؤمن بالاقتصاد. يتعامل بالتجارة. يرفض الربا...
لكن المشكلة أن الإسلام السياسي (الإخواني) لا يؤمن بديمقراطية الرأسمالية. فانهار في مصر. وتونس. عجز عن التكيّف مع الحداثة. هو أيضا دمج الدولة مع النظام. فلم يترك فسحة للديمقراطية. للتعددية. ولحرية الثقافة.
أفرج الإسلام الإخواني عن الإسلام «الجهادي»! هذا الإسلام عاجز عن إقامة دولة. لأنه بلا اقتصاد. تجاهل الإسلام «الجهادي» الفقر. البطالة. وقدم الكفر. كفّر الفقراء والأغنياء. فقتل من المؤمنين أكثر مما قتل من «الكفار».
هل الرأسمالية تعاني هذه الأيام؟ هي تعاني منذ خمسة عشر عاما. أومن بأن أزمة الرأسمالية أخلاقية، قبل أن تكون مالية أو اقتصادية. في ثلاثينات القرن الماضي، عانت الرأسمالية من «كريزة» الجمود. فوجد فرانكلن روزفلت الحل في الحرب. قاد الرئيس المشلول العاطلين عن العمل، من أمام المطاعم التعاونية إلى خنادق حرب أنقذت الرأسمالية.
غسلت الحرب بالدماء ذنوب الرأسمالية. فاستعادت إيمانها بالديمقراطية، بعد فترة غزل مع الفاشية الهتلرية. سلّمت اقتصاد العالم إلى الدولار. فانتشل الدولار أوروبا من الدمار. أغرقت أميركا العالم بوفرة السلع الرأسمالية. فشكرها الأغنياء. ولم يمتدحها الفقراء.
ثم بدأ الاهتزاز. أنهكت حروب أميركا الدولار. فأعلن ريغان وثاتشر الحرب على الدولة. وناديا باقتصاد السوق. فكان السوق السائق الأعمى الذي يقود عميان البصيرة.
دمر اقتصاد السوق أخلاقية المشروع الحر. تحول الاقتصاد إلى «بزنس» جشع همه الربح لا العدالة. فتراكمت البطالة. ازداد الفقر. اتسعت الهوة بين الطبقات. لإنقاذ الرأسمالية، سار ميتران. وتوني بلير. وبيل وهيلاري كلينتون، من اليسار إلى منتصف الطريق.
ولدت ليبرالية جديدة بلا آيديولوجيات اليمين واليسار. تسامحت الليبرالية مع اقتصاد السوق. لكن مع عودة الدولة إلى التدخل كحكم لحل النزاعات الاقتصادية. تخلى «العمالي» توني بلير عن العمال. فصوتت له الطبقة الوسطى في الانتخابات. حالف الـ«بودل» الإنجليزي جورج بوش. خاض معه حرب العراق. فسلمت أميركا عروبة هذا البلد إلى عملاء إيران.
مع تسامح الليبرالية، استغل اقتصاد السوق الفرصة: كافأ سماسرة مصارف وول ستريت أنفسهم بأموال المساهمين والمستثمرين. تقاعد المديرون، وفي جيب كل منهم مكافأة بقيمة تتراوح بين مائة مليون و500 مليون دولار. فتبخرت الأرباح الوهمية في البورصات.
أدار المتمول اليهودي برنارد مادوف إمبراطورية مالية بقيمة 65 مليار دولار، بناها من أموال المستثمرين على الرمال. راح يكافئ المستثمرين القدامى بفوائد وأرباح أعلى من الفوائد المصرفية، مستخدما أموال المستثمرين الجدد. عندما اختفى هؤلاء مع اختفاء السيولة في الأزمات المالية، انكشف مادوف. انتحر ابنه. سيخرج الأب (عمره سبعون سنة) من السجن بعد 150 عاما. سوف يغطيه يهود القرن الثاني والعشرين. سيقولون عنه إنه كان ضحية العداء للسامية.
بشر المرشح باراك أوباما الرأسمالية بالإنقاذ. ترأس أميركا. فكان المسمار الأسود في ترس القبيلة البيضاء. أنقذها من حرب العراق. يسحبها من حرب أفغانستان. لم يورطها في مواجهة مع روسيا وإيران في سوريا. انتهز المشاغب بوتين تردد أوباما وضعفه. فانتهك سيادة أوكرانيا باستفتاء روس جزيرة القرم على الانفصال عنها!
في الاقتصاد، كان المثقف أوباما أسوأ. في فقه القوانين الرأسمالية، المصارف لا تفلس. لكن المفلسين الصغار يذهبون إلى السجون! عوَّم أوباما مصارف وول ستريت والمصارف العقارية، من أموال المساكين دافعي الضرائب. فأعاد السماسرة والمديرون مكافأة أنفسهم بالأموال الجديدة. رفض أوباما تعويمهم بطبع دولارات ورقية. لأنه مضطر إلى تغطيتها بالاستدانة من الصين.
أين العرب في هذه المعمعة الرأسمالية؟ التزم النظام العربي الاستقرار. والأمن. بلا أفكار جديدة. التهم النظام الدولة. تغنّى بالسيادة. والاستقلال. فبتنا وطنيين متعصبين. تمزقنا الرياضة. فلا تجمعنا وحدة. تجاوزت المحاور العروبة. فأقامت محاور إقليمية. دخل الأب والابن في حلف مع إيران. انتخب خامنئي روحاني الإصلاحي، وأعدم 600 سجين سياسي ومدني. تقاتل إيران اليوم للهيمنة على سوريا خالية من الشيعة. غاصة بالقتلى. والجرحى.
عجز العرب عن التكيف مع الحداثة. تقدمت كوريا الجنوبية. وتخلف عرب آسيا الغربية. أخفقت الانتفاضة في مصالحة الإسلام مع العصر. ومع الحرية. اخترعت أميركا الإنترنت. راهنت على شباب مواقع الوصل والاتصال. فأخفق هؤلاء في بلورة أفكارهم. وتشكيل أحزابهم.
براغماتية أوباما فارغة من الآيديولوجيا. تخلى عن شباب الإنترنت ليراهن على الإسلام الإخواني! خطف الإخوان الانتفاضة. والسلطة. والحكومة. والرئاسة. فأصيبوا بالتخمة. أخفقوا في إدارة الدولة. فدمجوها بمكتب الإرشاد. أخفقوا في إدارة الأمن. والاقتصاد. خافوا. فألغوا الحرية. والتعددية. وأبقوا على «ديمقراطية» الاقتراع. يكسبون الانتخابات بقوة التنظيم. فتصفق لهم أميركا. وتركيا. وإيران. وحماس. فيخسرون ثقة الشارع والعرب.
ننتقل رويدا. رويدا، من الاقتصاد القديم إلى الاقتصاد الجديد. من المبكر استكشاف رأسمالية الإنترنت. لكن أصحاب مواقع الاتصال الاجتماعي راكموا ثروات هائلة، باحتكارهم الثورات الإعلامية. والإلكترونية. والرقمية. فنزلوا إلى البورصة. وباعوا أسرار الملايين من زبائنهم إلى وكالة الأمن الوطني الأميركية.
ماذا يفعل الإنسان المعاصر في مرحلة الانتقال من رأسمالية إنتاج السلع إلى رأسمالية إنتاج المعلومة المضللة؟ حسبنا أننا نعمل بشرف. نحلم بيأس. نهرب بخيبة إلى عالم افتراضي. فيقطع علينا «الروبوت» الإلكتروني خيط الاتصال مع المسؤول. نتقاعد بحزن. ونموت على «الكنبة» بصمت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق