بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 مارس 2014

أشعار يانيس ريتسوس: من الأسطوري إلى اليومي وبالعكس ابراهيم العريس

من المؤكد أن هناك على الأقل مشهداً واحداً يتعلق بحياته، لم ينسه يانيس ريتسوس، شاعر اليونان الكبير، حتى مماته، مع انه كان واحداً من المشاهد القليلة التي مسّت حياته، من دون ان يراها بعينيه: مشهد أكوام الكتب أمام أعمدة معبد زيوس في أثينا، خلال صيف العام 1936 تحرق بأمر من السلطات القمعية، ومن بينها نسخ عدة من مجموعته الشعرية الأولى «جناز الموتى» أو «شاهدة القبر» EPITAPHIOSI. لم ير ريتسوس ذلك المشهد يومها، لأن السلطات نفسها كانت قد اعتقلته قبل ذلك بفترة يسيرة، خلال واحدة من أعنف دورات القمع في التاريخ اليوناني الحديث، وإثر تظاهرات عنيفة حاولت التصدي يومها للحكم الديكتاتوري في البلد... لم ينس ريتسوس ذاك المشهد أبداً... تماماً كما انه طوال حياته لم ينس تفاصيل أي من لحظات تلك الحياة التي مرت طوال ثمانية عقود من السنين، وكأنها شريط أو نهر متدفق. والحال أننا من النادر أن نعثر على حياة تشبه حياة ريتسوس في تنوعها وأحزانها وأفراحها، بين حيوات كبار فناني ومبدعي هذا العصر. ولعل ما يزيد من عمق شريط الحياة هذا، ان صاحبه ظل محافظاً على الدوام، على ذلك الترابط العضوي بين ما يعيشه وما يكتبه وما يراه، وكأن الحياة صارت لديه صنواً للإبداع.

* في أشعاره الأولى المعنونة «جناز الموتى» (أو «شاهدة القبر») انطلق ريتسوس من إضرابات عمال التبغ في سالونيك ليرسم صورة يمتزج فيها ماضي اليونان بحاضرها. وهذه الأشعار عرفت بسرعة مكانتها في مخيلة اليونانيين وحياتهم، وحتى قبل تعميم ثيودوراكيس لها موسيقياً، بعقود طويلة. ولكن ما كان ينقص شعر ريتسوس في ذلك الحين، كان عنصر الذات، الرؤية الشخصية المعبر عنها بلغة رمزية... كان المناضل فيه قد ولد، وكان الشاعر قد تحددت ملامحه، وبقي على الطاقة الداخلية فيه أن تنفجر. واللافت أن القمع الذي ولد فيه المناضل والشاعر السياسي، كان هو الذي ولّد لديه الشاعر الجواني المعبر في «نشيد إلى أختي» (1937) عن أعمق عذابات النفس، عن الموت والتوق إلى الحرية، عن إلحاح الذاكرة (كما يتجلى لدى السورياليين) كما عن المنفى وقد تحول هنا إلى منفى داخلي... فالحال ان حرق السلطات مجموعته «جناز الموتى» وإيداعها له السجن... كانا هما اللذان دفعاه لاختيار لغة رمزية جديدة يقول فيها ما كان يقوله قبل ذلك بلغته البسيطة المباشرة.
> مع «جناز الموتى» وبخاصة مع «نشيد إلى أختي» كان ريتسوس قد عثر نهائياً على طريقه كشاعر: طريق ينبع من الموت ومن العذاب، ويستكشف عبقرية اليومي والتفاصيل العادية لحياة الناس، جنباً الى جنب مع الغوص بعيداً في الماضي العميق لليونان. بين العذاب الداخلي وتفاصيل اليومي ورمزية الماضي كما انرسم في المخيال الشعبي، إذاً، سيتمحور عالم ريتسوس الشعري منذ ذلك الحين وصاعداً. ولنضف إلى ذلك إيماناً كلياً بدور الشعر في قهر الموت وقدرته على ذلك. الشعر، كأم للفنون جميعها هو تلك المساحة المضيئة بين الحياة والموت، بين ما هو قديم وما هو جديد... الشعر كوسيلة لإنهاض الإنسان من كبواته ولخلق العصور الجديدة، وانطلاقاً من فهمه هذا للشعر ودوره.
> ولكن يجب ألا يفهم أحد من هذا أن شعر ريتسوس هو من ذلك الشعر الذي يسهل حفظه وتلحينه... بل بالعكس: لدى ريتسوس يتحمل الشعر قراءات عدة... بحيث ان المرء حين يوغل في قراءته، سيندهش أمام قدرة صاحبه على قول أعمق الأفكار ورسم أروع الصور، خلف ستار تلك اللغة البسيطة الهادئة التي ميزت شعره. ترى، أفلم يكن هو الذي قال: «لكي تجدني... عليك أن تبحث عني خلف الأشياء البسيطة؟».
> ولد يانيس ريتسوس في الأول من أيار من العام 1909، في مونيمفاسيا (بجزر البيلوبونيز اليونانية)... وكان كل ما يحيط مناخ ولادته يبشر بحياة عادية لطفل عادي تحدر من أب ثري. وسرعان ما توفيت أمه وأخوه بداء السل الذي انتشر في ذلك الحين، بعد أن قبعا مريضين لفترة في المنزل (الذي سيدعوه ريتسوس لاحقاً بـ «المنزل الميت» في إحدى مجموعاته الأكثر ألماً)... وبعد موتهما، عاش الصبي مع أبيه سنوات طويلة في وحدة لا يحسد عليها كانت كتب الشعر والمسرح والفلسفة رفيقته الوحيدة فيها. وحين صار في السابعة عشرة من عمره سافر إلى أثينا، وكانت أحوال أبيه قد ساءت إثر إفلاسه وإصابته بالجنون فأودعه المأوى، ليتوجه هو إلى مصح يؤويه بعد أن أصيب بدوره بالسل... وفي كتابه الأول «تراكتور» تجلت اهتمامات ريتسوس النضالية، ولكن على رغم الواقعية المباشرة التي طبعت ذلك العمل، عرف الشاعر كيف يزاوج بين نوع من الشاعرية الغنائية وبين حس ساخر أسود، وكيف يستخدم في سبيل التعبير عن ذلك لغة شعبية في منتهى البساطة. غير أن مجموعة «تراكتور» لم تكن سوى الممهد لعمله الكبير التالي «جناز الموتى» الذي كان فاتحة لسلسلة طويلة من الأناشيد التي أطلق فيها ريتسوس حساسيته من عقالها، وراح يعبّر بلغة بسيطة إنما رائعة الصور عن نضالات العمال.
> وكان ذلك خلال حقبة كان يدمره فيها الجوع وذكرى أهله الذين رحلوا، وطفولة وطنه، وصور العذاب اليومي للناس: الشهداء/ الأحياء. وكان يؤمن بأن الحل الوحيد هو في المقاومة. وأن مقاومة الشاعر هي كلماته التي تمعن في استكشاف ما هو عبقري وعميق خلف العادي اليومي... كما نجد ذلك ماثلاً في مجموعة «مازوركا عتيقة على ايقاع المطر» التي تضم بعض أكثر أشعاره غوصاً في يومية الحياة، وصور النضالات الصغيرة. كانت تلك الأشعار تمهد لانبعاث أعمال ريتسوس الكبرى التالية... بيد أن ذلك الانبعاث كان لا يزال عليه أن ينتظر أوائل الخمسينات، لأن الأربعينات سوف لن تنقضي إلا وقد أودع شاعرنا السجن ومعسكرات الاعتقال من جديد بعد التسوية التي تلت انتهاء الحرب الأهلية في العام 1948.
وفي سجنه، كتب ريتسوس الكثير، وقرأ الكثير، وأمعن بخاصة في قراءة تاريخ وطنه، وقد قرر أن يجعل من ذلك التاريخ قاعدة أساسية لكتاباته اللاحقة ولعالمه الشعري الجديد الذي افتتحه في العام 1951، بقصيدته الطويلة «الأزهار ونحن»... ولسوف تكون الفترة التالية، حتى اعتقاله مرة أخرى في ربيع 1967، واحدة من أخصب فترات حياته: قصائد طويلة مسرحية تنقسم إلى مقدمة، ومناجاة درامية/ أسطورية، أشعار قصيرة لتخليد عادية الناس وتوقهم الى الحياة، تلك المرحلة هي التي شهدت ولادة أجمل أعماله من «البعد الرابع» إلى «سوناتا في ضوء القمر» إلى «يونانية»، إلى «يقظة» (تلك الوصية السياسية) وصولاً إلى النصوص الطويلة مثل «العجائز والبحر» و «المنزل الميت»، و «اورست» و «هيلين» و «فيلوكريت»... مع تلك القصائد والنصوص الطويلة، كان ريتسوس قد وصل إلى ذروة نضوجه، ولم يعد لديه فارق كبير بين أن يقف الشاعر متأملاً الماضي والشيخوخة والذكريات، وانكشاف الموت من خضم الحياة، وبين أن يؤمن هذا الشاعر نفسه، وفي النص نفسه، بأن المستقبل المقبل سيحمل السعادة والرضى. شخصيات الشاعر (ولا سيما في النصوص الطويلة) لديها قدرة هائلة على إلغاء الزمن وعلى المزج بين الماضي (الواقعي والأسطوري ممزوجين في أقنوم واحد) وبين الحاضر والمقبل... وكأنها شخصيات تعيش أبدية مدهشة.
> صحيح ان الشاعر يحدثنا عن عزلة الإنسان في عالم غير إنساني (كما في «البعد الرابع») وعن اللاتواصل بين البشر وعزلة الكلام، ودوخان الإنسان والشاعر أمام هاوية الفراغ (كما في «سوناتا في ضوء القمر»)، وعن توقف الزمن (كما في «صفاء شتوي») حيث نرى الرجل الذي يكتب التاريخ يتوقف فجأة عن كتابته فيجمع أوراقه فيما البيت الذي يكتب الرجل تاريخه، يستعيد التاريخ من جعبة الكاتب... صحيح ان كل ما يحدثنا عنه الشاعر هنا ينضح بيأس وسوداوية عنيفين... لكن أهميته ان ريتسوس كان ينظر إلى هذه السوداوية على انها الطريق الإلزامي نحو النور... وظلت تلك نظرته حتى رحيله في العام 1990.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق