بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 16 مارس 2014

شاشات المقاهي وباسم يوسف بين ثورة وضحاها - أمينة خيري

جموع الجالسين في المقهى الراقي غير ملتفتين إلى شاشات العرض المثبتة على الجدران، إلا في ما ندر. ينظر أحدهم إلى الشاشة ثم يعود أدراجه إلى الحديث الدائر مع الأصدقاء. يرفع صديق منهم عينيه إلى الشاشة، ثم تظهر عليه علامات الامتعاض، لكنه لا يعود لاستكمال الحديث إلا بعد أن يطلب من النادل أن يكتم الصوت أو يحول إلى قناة أخرى أو يغلقه برمته.

يتعجب النادل ويضرب كفاً بكف. فالمجموعة نفسها قبل أقل من عام كانت تلتف حول البرنامج نفسه – وإن كان على قناة أخرى- حيث يسود الصمت التام ولا تقطعه سوى انفجارات الضحك وتصفيقات الإعجاب.
النادل نفسه يقول إنه (البرنامج) ظاهرة تقتصر على النصف العلوي من الهرم الطبقي، إذ لم يتفاعل معه أو يتبعه أو يحبه أو يبجله أو يكرهه سوى أبناء الطبقتين المتوسطة والعليا، إضافة إلى الشباب المثقف تثقيفاً ذاتياً من الطبقات الأدنى.
«لا أم حسين بائعة الجرجير ولا الحاج أحمد البقال، ولا حتى فتحي وسيد وجابر عمال اليومية من الشباب. لم يتابعوه يوماً، لا زمان ولا الآن».
الآن، فقدت الظاهرة بريقها. انطفأت أو فلنقل اندثرت، وفي أقوال أخرى انكشفت. باسم يوسف، طبيب القلب الذي دأب على ضخ نسمة هواء عليل عبر الأثير العنكبوتي في أواخر عهد الرئيس السابق مبارك، ثم نقل هواءه العليل إلى أثير التلفزيون متنقلاً من قناة إلى أخرى باثاً عبير السخرية السياسية ومرسخاً دعائم النقد والمعارضة من بوابة النكتة السياسية والقفشة الاجتماعية التي بلغت من الحدة والقسوة ما فتح جراح المصريين الذين اعتادوا الضحك على أنفسهم والسخرية من مصائبهم والتنكيت على حكامهم ولكن «من تحت لتحت».
ظلت النكتة السياسية والسخرية الذاتية صمام أمان المصريين على مدى العصور والدهور، لكنهما كانتا حبيستي الجلسات المغلقة والنميمات المطبقة التي اكتسبت جانباً من لذاعتها وجزءاً من أهميتها من سريتها وصوتها الخافت الذي دأب على السريان في أوصال المصريين بهدوء بالغ ولكن بسرعة مفرطة.
السرعة المفرطة التي اكتسب بها «البرنامج» شهرته وبنى شعبيته واكبتها مكاشفة مباغتة ومجاهرة مفاجئة لأحد أعتى أسلحة المصريين المستخدمة على مر السنين للبقاء على قيد الحياة رغم أنف ظروف القهر وملابسات الظلم ومغبات الفساد. أول «إنجازات» باسم يوسف كان الخروج بالنكتة السياسية والسخرية الذاتية من حيز السرية إلى الفضاء العام. فرح الجميع آنذاك، ورقصوا وغنوا وطبلوا وزمروا، واعتبر الخبراء إنجاز المجاهرة نتيجة مباشرة لـ «ثورة يناير» حيث «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية» ومعها المجاهرة بالنكتة السياسية على شاشات التلفزيون التي تخترق ملايين البيوت والمقاهي والمجالس. هذا الإنجاز انعكاس لمرآة يوسف نفسه الذي أخرجته «ثورة يناير» الربيعية من حيز الإنترنت الضيق حيث كان يحمل مقاطعه المصورة في بيته أو مكتبه إلى فضاء الأثير التلفزيوني الواسع والممتد والعابر للحدود.
حدود باسم يوسف توسعت وتشعبت وصارت أكبر وأقوى وأوسع وأعمق من «البرنامج». فلم يعد «البرنامج» منذ ظهوره على شاشات التلفزيون المصرية الخاصة مجاهراً بنكات سياسية فقط وناقداً لتوجهات أيديولوجية ومعارضاً لمعتقدات دينية مسيّسة وأفكار سياسية مؤدلجة، بل أصبح ايضاً منظومة قائمة بذاتها اعتبرها الغرب سمة فذة ومدرسة رائدة آتية عبر البحار والمحيطات من بلاد الجهل والجهالة والتأخر والانغلاق، وتعامل معها العرب من منظورين متناقضين، فمنهم من اعتبر «البرنامج» فتحاً مبيناً وإنجازاً مهيباً ينتشل العرب من ضيق الأفق وضحالة العيش وخشية الحاكم إلى آفاق الحرية الغربية وفضاءات الحقوقية المطلقة، ومنهم من نظر إليه باعتباره فسقاً وفجوراً وقلة أدب وخطراً هائلاً من شأنه أن يهدد أواصر الحكم تارة ومكارم الأخلاق تارة. أما في مصر، فقد استقبله أبناء الطبقتين الوسطى والعليا - باستثناء المنتمين الى دائرتين متناقضتين ألا وهما نظام الرئيس السابق حسني مبارك وأصحاب نهج الإسلام السياسي - بكثير من الترحاب والإعجاب.
فباسم يوسف يفكر مثلما يفكر أبناء هاتين الطبقتين. ثقافته العامة تؤهله للنظر إلى المشهد بطريقة بانورامية، فهم ليسوا من أبناء القرى الذين نزحوا إلى المدينة، وليسوا قاطني أسفل الهرم الطبقي حيث ضيق ذات اليد وكراهية الميسورين لأنهم قادرون مادياً، وليسوا محدودي التعليم إذ إن مدارسهم وجامعاتهم لا تنتهج طريقة الحفظ والصم ومن ثم الاختبار ومنح شهادة ورقية، لكنهم تعلموا تعليماً نقدياً يوجه إلى طريقة التفكير وليس الى ماهية التفكير. وجدت هذه الطبقات في باسم يوسف ضالة إعلامية منشودة، وبوقاً سياسياً مفهوماً، ووسيلة ترفيهية منشطة للفكر.
وتخندق المعارضون والكارهون لـ «البرنامج» في خندق واحد مفتقد التناغم. فالمنتمون الى الإسلام السياسي لا يقبلون مسألة التفكير والخروج عن المألوف، فالطاعة العمياء تظل سر التنظيم حيث «لا تجادل» شعار الجميع. أما المرتبطون – من حيث المصلحة - بنظام مبارك، فقد رأوا في باسم يوسف وما يمثله معولاً من معاول هدم دولة مبارك ومن ثم مصالحهم.
بقاء باسم يوسف على رأس البرامج الأعلى مشاهدة في التلفزيون والمقاطع الأكثر تداولاً على الإنترنت لم يكتب له البقاء. صحيح أن المصريين الكارهين لحكم الجماعة والمعارضين للإسلام السياسي والمعتبرين للدكتور محمد مرسي فضيحة مصرية وخيانة للوطنية اعتبروا باسم يوسف سلاحاً عظيماً في وجه «الإخوان». وما إن سقط «الإخوان» بفضل تضافر الشعب والجيش، حتى تحولت دفة «البرنامج» إلى الجيش تارة و «جماهير» اعتبرت الجيش مخلّصها ومنقذها، حتى انقلب السحر على الساحر، وانفض الجمع الشعبي من حول «البرنامج» طواعية وقبل أن يتم إيقافه هنا في هذه القناة وتحوله هناك في تلك المحطة.
لكنّ هذا التحول الشعبي لم يمتد عبر الحدود، فقد ظل الجانب العربي المعجب بـ «البرنامج» وما يمثله من نقلة عربية من ضيق الأفق السياسي وتحجر رؤى الحرية إلى آفاق الرحابة الغربية بما تمثله – على الأقل ظاهرياً - من حرية مطلقة ومن انتقاد. كما تعامل الغرب – ممثلاً بقنوات إعلامية بعينها مع «البرنامج» باعتباره النافذة المشرفة حيث حرية انتقاد الساسة والتنكيت على المؤسسات العسكرية والسخرية من الجماهير حق أصيل يجب ضمانه في «تلك» المجتمعات الشرقية.
يقف باسم يوسف ومدرسته مساء كل يوم جمعة بين الأمس واليوم حائراً. وعلى رغم ان المقاهي تظل عامرة بروادها، إلا أن الشاشات لم تعد جاذبة، والنكات لم تعد مضحكة وإن ظلت كذلك عبر الحدود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق