بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 18 مارس 2014

في مشروعية السؤال الفلسطيني عن معنى المقاومة ماجد كيالي

بعد حوالى قرن من صراع الفلسطينيين ضد المشروع الصهيوني تخللته انتفاضات وثورات وتجارب كفاحية متعدّدة، أهمها ثورة 1936، التي شملت أطول إضراب عرفه التاريخ (ستة أشهر)، وتجربة الكفاح المسلح من الخارج (1965ـ1982)، ثم الانتفاضة الشعبية الأولى (1987ـ1993) في الداخل، وبعدها الانتفاضة الثانية (2000ـ 2004)، التي غلب عليها البعد العسكري، لا يبدو أن الفلسطينيين توصلوا إلى توافق حول معنى المقاومة، أو حول شكل المقاومة الأنجع والأنسب لظروفهم وإمكانياتهم، على رغم تمرّسهم بالسياسة، وغنى تجربتهم، والتضحيات والمعاناة والبطولات التي بذلوها.
واضح أن الفلسطينيين في كل هذه المسيرة لم يستطيعوا أن يهزموا إسرائيل، ولا على مستوى الانسحاب من الأراضي المحتلة (1967)، بسبب تفوقها عليهم من كل النواحي، لا سيما بسبب تميّز إدارتها وتأهيلها لمجتمعها ولمواردها البشرية، أي ليس بسبب تفوقها العسكري فقط، وتأتي في إطار ذلك، طبعاً المعطيات العربية والدولية المواتية لها.
على ذلك فإن مشكلة الفلسطينيين لا تكمن في ضعف إمكانياتهم فحسب، أو عدم دعم النظامين العربي والدولي لكفاحهم فقط، إذ هي تكمن أيضاً في تخلّف إدارتهم لصراعهم ضد إسرائيل، كما في تخلّف إدارتهم لمجتمعهم ولمواردهم البشرية والمادية، ونمط علاقاتهم البينية، والمعايير التي تأسّست عليها حركتهم الوطنية.
أما ما يخصّ موضوع المقاومة تحديداً فإن مشكلة الفلسطينيين تكمن في اختزالهم إياها في المقاومة المسلحة، ما يعني حصرها في جماعات محترفة، الأمر الذي يستبعد معظم الشعب من دائرة مقاومة المستعمر وتضييع طاقته. هذا أولاً. ثانياً، لا يقف الأمر عند اختزال المقاومة بالعمل المسلح، إذ أن الفلسطينيين لم يميّزوا أيضاً بين المقاومة المسلحة وبين الحرب، ولا بين هذين وردود الفعل على اعتداءات إسرائيل. ثالثاً، لم يتعامل الفلسطينيون مع المقاومة باعتبارها عملاً سياسياً يقوم به بشر قد يخطئون أو يصيبون، أو على أنها عمل يخضع لحسابات الجدوى والكلفة والمردود، إذ أضفوا عليها نوعاً من القداسة، ما يتناقض مع السياسة. وبديهي أن ذلك أفضى إلى تسيّد مظاهر الهيمنة والسلطة في علاقة الفصائل مع المجتمع، لا سيما بحكم عدم خضوع القيادات للمساءلة والمحاسبة، وافتقاد الفصائل للحراكات الداخلية ولتقاليد العمل الديموقراطي.
بالنتيجة فإن الفلسطينيين لم يسألوا، طوال نصف قرن من تجربتهم الوطنية، أين كنا وأين أصبحنا؟ ولا لماذا حصل ما حصل؟ ولم تتم مراجعة تجربة المقاومة المسلحة في الأردن، ولا في لبنان، ولا في الانتفاضة الثانية. كما لم يسأل أحد كيف تحولت المقاومة إلى نوع من سلطة في الأماكن التي صعدت فيها، في الأردن ولبنان ثم في الضفة وغزة، إلى الحد الذي أدى إلى هذا التناقض بين مفهوم الحرية والتحرير.
والحال، فإن الجدال هنا لا يدور حول مشروعية المقاومة بمختلف أشكالها، ضد الاستعمار والهيمنة والعنصرية الإسرائيلية، وإنما حول الأشكال الأجدى للمقاومة في كل مرحلة، باعتبار ذلك من أبجديات العمل السياسي، ومن صلب عملية المراجعة والتقييم المطلوبة لإدارة الصراع ضد إسرائيل، بالشكل الأفضل والأقوم، لا سيما بعد تجربة معقدة ومضنية ومكلفة مدتها نصف قرن.
ولعل المسألة الأساسية التي ينبغي إدراكها هنا أن كل الفصائل، وضمنها «فتح» و «حماس» و «الجهاد» والجبهات، لا تستطيع شنّ حرب ضد إسرائيل، لا من الضفة ولا من غزة، إذ أنها منظمات مقاومة، أما الحرب فلها وسائلها وأدواتها وظروفها، وهي ليست في متناول الفلسطينيين تحت الاحتلال، وحتى أنها لم تعد في مقدور النظام العربي السائد. هذا لا يعني أن الفلسطينيين لا يستطيعون شيئاً، وإنما يعني أن باستطاعتهم المقاومة حصراً، ويعني أنهم، في ظل إدارة أفضل لأحوالهم ولطاقاتهم، يستطيعون أن يرفعوا ثمن الاحتلال، وأن يزعزعوا استقرار إسرائيل، وأن ينزعوا عنها شرعيتها، في إطار سعيهم لهزيمتها بالمعنى التاريخي، بانتظار التطورات الدولية والعربية والمحلية التي تقوض معناها، كدولة صهيونية، استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية في الشرق الأوسط.
الآن، ثمة مشروعية لطرح السؤال مجدّداً عن معنى المقاومة، أو عن جدوى هذا الشكل أو ذاك، في هذه المرحلة أو تلك، وذلك بمناسبة ما حصل في غزة مؤخّراً، إذ إن الفصائل السائدة، على اختلاف تلاوينها، وضعت الفلسطينيين أمام خيارين: إما التهدئة مع إسرائيل، أو شنّ الحرب عليها بالصواريخ، علماً أن بين هذين ثمة أشكالاً صراعية أخرى قد تكون أجدى وأنسب وأكثر كلفة لإسرائيل، وأكثر ديمومة وملاءمة لكفاح الفلسطينيين.
وقد لاحظنا، مثلاً، أن محصلة الاشتباك الصاروخي أفضت إلى التهدئة، بعد أن كان الحديث يدور عن الحق في استمرار المقاومة، بالصواريخ وغيرها، لكن ما الذي تعنيه التهدئة حقاً؟ فهل هذه باتت مقاومة أيضاً؟ وهل التهدئة تنهي الاحتلال؟ ثم ما الفرق بين التهدئة في غزة عنها في الضفة؟ ثم من الذي من حقه أن يتخذ قرار الحرب ولأي هدف؟
أيضاً، في خضم طرح هذه التساؤلات، لا ننسى أن صيحات الحرب من غزة مضرة، وغير مسؤولة، وغير مجدية، إذ بدلاً من أن تظهر ما يعانيه القطاع من الاحتلال والحصار، تقوم بإظهاره كمنطقة تملك الجيوش التي تهدد الإسرائيليين بالصواريخ. والواقع فإن إسرائيل تتعمد استدراج الفلسطينيين إلى هذا المربع لتغطية اعتداءاتها الوحشية عليهم، وإمعان البطش بهم، وتشديد الحصار على مليون ونصف مليون منهم، هذا من دون أن ننسى معاناة الفلسطينيين في القطاع نتيجة افتقادهم للمواد التموينية والمحروقات والمياه والكهرباء. والمعنى أن أخذ الأمر نحو حرب وجودية، أي غزة ضد إسرائيل، عدا عن أنه غير صحيح، وغير عقلاني، يؤدي إلى نتائج كارثية، على نحو ما حصل في 2008 و2012، مع الاحترام لكثير من الشعاراعلى ذلك ربما بات من المفيد أن يعزّز الفلسطينيون إدراكاتهم للكفاح المسلح باعتباره، مع مشروعيته، ليس عملاً مزاجياً، ولا وسيلة للمزايدة أو التوظيف الخارجي، وأن الأساس هو مقاومة الشعب، وأن من يريد أخذهم إلى هذا الخيار أو ذاك عليه أن يقنعهم بخطته وإمكانياته ورؤيته، لأن الأمر لا يقتصر على مجرد صواريخ، تصيب أو لا تصيب، فالأمر أعقد وأصعب من كل ذلك. أيضاً، من المفيد هنا ملاحظة أن خيار المقاومة عند الفلسطينيين لم يقتصر على الكفاح المسلح، ففلسطينيو 1948 لم يتبنوا هذا الشكل إطلاقاً في تاريخهم، ومع ذلك فهم يواصلون كفاحهم ضد إسرائيل بطريقتهم، ووفق ظروفهم. أما بالنسبة للفلسطينيين في الضفة والقطاع (قبل أوسلو 1993)، فهم تبنّوا طريق المقاومة الشعبية والعصيان المدني، والانتفاضات بين فينة وأخرى، والتي توّجت بالانتفاضة الشعبية الأولى (1987ـ1993). أما بشأن الفلسطينيين اللاجئين في الخارج فقد باتوا خارج معادلات الصراع مع إسرائيل، بسبب انتهاء العمل من الخارج، والتحولات في الدول العربية. وإذا كان الأمر على هذا النحو فهل هذا يعني أنه لا توجد طريقة لاستثمار طاقاتهم في مصارعة إسرائيل وفي الكفاح من أجل حقوقهم؟ وفي ذات السياق، وعلى ضوء انتهاء المقاومة المسلحة وتجفيف مصادر التسلح من الخارج، ترى ماذا بإمكان الفصائل أن تعمل؟ فهل هذا يعني انتفاء أي شكل من أشكال المقاومة؟ أم ينبغي حثّ الطرق التي يمكن أن تستنهض طاقات المقاومة الكامنة عند الشعب الفلسطيني، بحسب الإمكانيات والوسائل المتوافرة لديه، وهي القناعة التي توصل إليها العديد من قادة حركة «حماس»، وضمنهم خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي؟
عموماً، هذه الملاحظات بمناسبة الجدل الدائر حول ما جرى في غزة، وحول الأشكال الأجدى للمقاومة، لا علاقة لها لا بوقف المقاومة ولا باستئنافها، لأن المسؤولية عن ذلك تقع على عاتق الفصائل، فهي التي تملك القدرة على وقف المقاومة، أو استئنافها.
ولعله يجدر بنا التذكير هنا بمحصلة بعض التجارب، ففي عام 2002 زجّت المقاومة الفلسطينية المسلحة بكل طاقتها، متخلّية في ذلك عن استراتيجية حرب الضعيف ضد القوي، أو استراتيجية الاستنزاف، ما نتج منه مصرع 452 إسرائيلياً، وكأنها إزاء حرب يتم الفوز بها من الضربة القاضية، في حين أن إسرائيل وجدت في ذلك الفرصة للانقضاض على الفلسطينيين وإمعان القتل والتدمير فيهم. بالنتيجة وبدءاً من 2003 حصل تراجع ونضوب في قدرات المقاومة، فبدلاً من أن يستنزف الفلسطينيون إسرائيل باتت هي تستنزفهم، ففي عام 2003 قتل 208 إسرائيليين، وفي 2004 قتل 117 منهم، أما في 2005 فقتل 56 وفي 2006 قتل 30 وفي 2007 قتل 13، أي وصلنا إلى الحد الذي توقفت فيه المقاومة تقريباً في الضفة وفي غزة، وبكل أشكالها الشعبية والمسلحة. وكان الفلسطينيون إبان ثورة 1936 ـ1939 زجّوا بطاقتهم مرة واحدة ضد الانتداب البريطاني وعصابات المستوطنين الصهاينة، والنتيجة كانت هزيمة الثورة، مع إخراج 75 ألفاً منهم من الصراع بين شهيد وجريح ومعتقل ومنفي، ومصادرة معظم أسلحتهم، لذا عندما وصلوا إلى 1948 كانوا في غاية الاستنزاف، وحصل ما حصل.
المعنى من كل ذلك أن الفلسطينيين معنيون بالاعتماد على إمكانياتهم الذاتية، والاقتصاد في تصريف طاقتهم في صراعهم الطويل والمضني والمعقد ضد إسرائيل، لا سيما أنهم أثبتوا أن الصمود في الأرض، والمقاومة الشعبية، والانتفاضة، والحث على مقاطعة إسرائيل ونزع الشرعية عنها، باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية، هو الشكل الأكثر جدوى بين الأشكال الأخرى، إلى حين توافر معطيات جديدة. ولا شك أن هذا يتطلب، أيضاً، تركيز الفلسطينيين على استنهاض أحوالهم كشعب، وبناء مؤسساتهم والحفاظ على هويتهم الوطنية وتطوير كيانيتهم السياسية، باعتبار ذلك جزءاً من العملية الصراعية ضد إسرائيل لا ينبغي إهماله أو الاستهانة به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق