بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 5 مارس 2014

اتفاق القاهرة وجدل «الثلاثية» - الياس حرفوش

كان يفترض بالدولة اللبنانية أن لا تفاجأ بالمواجهة بين «حزب الله» ورئيس الجمهورية. ذلك أن الدولة التي تلزّم سيادتها لفريق ما، وتؤجّر حقها في الدفاع عن أرضها لجهة لها مصالحها وأهدافها الخاصة من وراء عقد الإيجار هذا، هذه الدولة لا بد أن تفيق ذات يوم لتجد نفسها مسلوبة القرار والإرادة، ولتطالب بحقّها ... بعد فوات
الأوان.من هنا ليست الحملة التي يشنها «حزب الله» وإعلامه على الرئيس ميشال سليمان حملة مفاجئة. فالحزب يشعر اليوم أن قوته الذاتية تضاهي قوة الدولة، إن لم تكن تفوقها، كما يشعر أن الغطاء الذي تم توفيره له في ظل الحكومات السابقة، من خلال ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» يسمح له بمنح صك البراءة لمن يشاء ونزعها عن المغضوب عليهم، ولو كان بين هؤلاء المغضوب عليهم «من يسكن في قصر بعبدا».
لقد سكتت الدولة اللبنانية طويلاً عن «حزب الله». وعليها الآن أن تلوم نفسها فقط أمام إمعان الحزب في حملته على مؤسساتها، وصولاً إلى موقع الرئاسة الأولى. لقد كانت الهدنة المصطنعة بين الحزب وبين رئيس الجمهورية قائمة على معادلة واضحة، هي صمت الرئيس، أو مهادنته لـ «حزب الله»، وموافقته على الثلاثية الشهيرة التي تم فرضها على كل الحكومات التي تم تشكيلها في عهده، وذلك في مقابل رضى الحزب عن رئيس الجمهورية، والإشادة به من وقت إلى آخر، والموافقة على منحه صفة «الرئيس التوافقي»، في ظل حاجة الحزب إلى الغطاء السياسي «الشرعي» الذي يوفره له الرئيس، والذي يمكن استخدامه في أي محفل، إقليمي أو دولي، للقول إن ما يقوم به «حزب الله» يرقى إلى مستوى العمل الوطني الذي يحظى بإجماع اللبنانيين، طالما أنه يحظى بتغطية رئيسهم.
قبل توليه رئاسة الجمهورية لعب الرئيس ميشال سليمان خلال قيادته الجيش دوراً مهماً في السماح لـ «حزب الله» بتوسيع رقعة عمله في الجنوب وفي غيره من المناطق. وكان ذلك بحجة ضرورات التنسيق بين الجيش وبين الحزب في منطقة عملياته في المنطقة الحدودية. غير أن ما أخذه الحزب في مقابل ذلك هو مطالبته بتشريع المساواة بينه وبين الجيش، من خلال الإيحاء بأن الجيش عاجز أو أنه لا يملك الإرادة السياسية ولا السلاح اللازم للدفاع عن أرضه. هكذا أرسى «حزب الله» المعادلة التي تقول إن كل مواجهة له من أي نوع، حتى لو كانت مواجهة سياسية، ترقى إلى مستوى الخيانة الوطنية، لأنه الجهة الوحيدة في لبنان، المؤهلة والقادرة على الدفاع عنه.
كان يمكن أن يستمر هذا الوضع على حاله، وصمت اللبنانيين عليه قائماً، لولا أن بنادق الحزب صمتت في الجنوب منذ عام 2006، ثم جاء تدخله المنحاز في النزاع السوري ليدفع الاعتراضات على سلوكه إلى حدها الأقصى، وليكشف هشاشة ما كان يفترض أنه إجماع وطني حوله، سرعان ما تحول إلى انقسام عميق، له لونه المذهبي الواضح.
لعل من المفيد هنا تذكير اللبنانيين، على رغم أن ذاكرتهم قصيرة، باتفاق القاهرة في عام 1969، والذي أدى عملياً إلى تلزيم الجنوب اللبناني للمقاومة الفلسطينية. صوّت النواب اللبنانيون على اتفاق القاهرة آنذاك من دون أن يقرأوه. واحتاج الأمر إلى 18 عاماً قبل أن يجتمع مجلس النواب من جديد ويلغي ذلك الاتفاق في عام 1987. وبين توقيع الاتفاق وإلغائه كان جنوب لبنان خارجاً بشكل شبه كامل عن سلطة الدولة اللبنانية، ومثل اليوم كان كل اعتراض على ممارسات المقاومة الفلسطينية وتجاوزاتها للسيادة اللبنانية يرمى بتهمة العمالة للعدو الإسرائيلي. وكلنا نعرف طبعاً إلى ماذا انتهى ذلك الوضع الشاذ في جنوب لبنان وصولاً إلى بيروت.
ومثلما قيل إن «الأمر الواقع» (الفلسطيني) هو الذي فرض اتفاق القاهرة، وحوّل الجنوب إلى «فتح لاند» تسرح فيه المقاومة الفلسطينية على هواها، هكذا يقال اليوم إن «الأمر الواقع» هو الذي فرض نفسه على الحكومات اللبنانية لإرغامها على الموافقة على ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة». لقد كان «حزب الله» ولا يزال مستعداً لتعطيل البلد وشلّ عمل المؤسسات إذا لم يكن له ما يريد. هكذا تم انتزاع الموافقة على تلك الثلاثية وإرغام الحكومات على تبنيها في بياناتها الوزارية عن طريق التهديد وتحويل البلد إلى رهينة، والسماح بتسيير أموره إذا شاء «حزب الله»، أو تعطيل الحياة السياسية والاقتصادية فيه، إذا عجز الحزب عن فرض هيمنته على القرار. وهو ما يذكّر بما كانت تمارسه المقاومة الفلسطينية في السبعينات من القرن الماضي من تدخل مباشر في تشكيل الحكومات وفرض نفوذها على مناطق معينة في بيروت وغيرها من المناطق، وتحوّل سلاحها عما كان يفترض أن يكون مقاومة ضد إسرائيل على الحدود الجنوبية إلى سلاح يناصر فريقاً في النزاع السياسي داخل لبنان ضد فريق آخر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق