بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 13 فبراير 2014

أي عالم عربي يتشكّل - سليمان تقي الدين

بعد ثلاث سنوات من اندلاع الثورات العربية يصعب قياس النتائج على ثنائيات الخير والشر والأسود والأبيض. ومن الخطأ أصلاً اقتصار التقييم على بعض الظواهر والوقائع السياسية. هناك زلزال عربي ارتداداته ما زالت مستمرة وتداعياته أعمق من أن نحصرها في التوازنات السياسية الراهنة في داخل الأقطار العربية وفي المدى
الإقليمي. رفعت الثورات العربية الغطاء عن مجتمعات راكدة أو مكبوتة ومصادرة فلم نكن نعرف تماماً مكوّناتها وقضاياها ومشكلاتها. أدخلت الثورات إلى معارفنا قاموساً كاملاً جديداً من الأمكنة الجغرافية، من المدن والأحياء، من الطوائف والمذاهب والقبائل، من الأحزاب ومن التيارات الفكرية، ومن الوجوه والرموز والأسماء النسوية والذكورية، ومن اللغات والشعارات، وكشفت عن منظومة علاقات بين الجماعات والدول، فضلاً عن ملفات المصالح الدولية المتصلة بخطوط إمداد النفط والغاز وتجارة السلاح.
حتى هذه اللحظة ليست لدينا جردة كاملة بالآثار الاقتصادية والاجتماعية، بحجم الخسائر المادية والبشرية، بأهداف التدمير المنهجي لبعض المواقع والمقاصد من وراء ذلك، بالفرز الجغرافي والديم,غرافي في بعض المدن، بكل ملف العنف الرسمي والمعارض، وأخيراً بطبيعة التغيير الذي حصل على الأفكار والخيارات وردود الأفعال في الرأي العام والأمزجة للقطاعات الاجتماعية والمهنية.
الثورات هي هذه القضايا كلها وليست رئاسة وحكومة ودستوراً وأحزاباً وشخصيات. فضلاً عن الأهم الذي يثير الالتباس وهو مستوى العلاقات الإقليمية ودور الدول الفاعلة والاتجاهات السياسية، كدور المملكة العربية السعودية أولاً في دائرة الخليج العربي من العراق إلى اليمن، وتركيا وإيران وإسرائيل ومصر الخارجة من الأسر، ثم روسيا وانتفاضتها الدولية وأميركا وما يُحكى عن سياسات جديدة.
ما لدينا الآن من معارف لا يرقى إلى مستوى الإحاطة التي تسمح بتكوين "رؤية تاريخية" عن حدث تاريخي كيف يمكن لنا أن نختصره بعد عقود ونصفه لأجيال قادمة.
لكن ما لم نكن نعرفه يتكشّف تدريجياً في هذا الحراك ويقدّم لنا عالماً عربياً عارياً من الأغلفة، ومجتمعات في حالة التفلّت الكامل من السيطرة العليا. هذا المعطى يفرض علينا التفكير والتأمل في المشكلات الراهنة بوصفها قفزة تاريخية نقلت العرب من منظومة سابقة إلى منظومة أخرى. لذلك ندعو إلى فهم أوضاع العراق اليوم واليمن وليبيا والسودان وتونس ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن بوصفها مجتمعات تتشكّل اليوم لا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية من القرن الماضي. وبشكل خاص علينا أن نفهم كيف تتجلى "عروبة المشكلات" مع انهيار "المشروع العربي". كما علينا أن نفهم كيف أن البديل الإسلامي دخل في أزمته الكبيرة فور اقترابه من السلطة لأنه لا يملك جواباً فعلياً على قضايا الشعوب ويختصر المسألة في إحلال الإسلام هوية جامعة في موقع العروبة. ولم تكن مشكلة الشعوب مشكلة هوية بهذا المعنى كما ظهر الأمر في ردة فعل الشعبين التونسي والمصري. في المواجهة مع سلطة "الإخوان" أسقط الشعب هذه الفرضية الخادعة أو هذا المشروع الخادع بالتأكيد على عروبته وإسلامه ونقل المعركة إلى النموذج السياسي وإلى العقد الاجتماعي المرتبط بحاجات مواطنين يريدون الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
وإذا كانت التجربة السورية قد أغرقت بالدم والعنف واستجلبت كل النزاعات الإقليمية والدولية، ورغم هذا الشذوذ الذي جعلها كارثة ومأساة إنسانية، فقد كشفت إلى حد بعيد كل المصالح والمشاريع في الداخل والخارج واختصرت "الساحة السورية" كل إفرازات البيئة العربية وتناقضاتها. يصح القول إن سوريا هي كما كان لبنان في حربه الأهلية "مكب النفايات" أو "الحديقة الخلفية"، أو "المختبر" لكل هذه النزاعات والتيارات بحيث جلبت كل هذا العنف.
المشهد الخطير هو في حجم التدخل الخارجي الذي يصب جميعه على اختلافاته، في اتجاه احتواء ظاهرة الثورات العربية وأخذها أو توظيفها في إعادة تكوين المنظومة السياسية الإقليمية. سوريا تدفع ثمن ما كان يمكن أن تحققه الثورات العربية حين تؤكد صفتها العربية الشاملة والانتقال من عصر الاستبداد إلى عصر الحرية، ومن شبكة
التبعية التي وقع فيها العرب إلى مستوى آخر من الاستقلال يقوم على مشروع تنمية له بُعده الشعبي.
فما يحصل هو ضريبة مفروضة سلفاً في كون تطور الحراك السياسي الشعبي العربي ليس على سوية واحدة في نظام عربي مختلف التكوين والأنظمة والثقافات. فهل نفتح ورشة فكرية لمراجعة هذا المسار العربي وتحدياته الجديدة، لنطرح الأسئلة الفعلية التي تقود إلى أشكال الحلول؟
السفير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق